الزمن والوقت من منظور إيماني وذوقي

الزمن والوقت من منظور إيماني وذوقي

د. عبد الله الشارف

...ولمزيد من التوضيح في العلاقة بين الذوق الإيماني والمعرفة، سأحاول بإذن الله شرح نماذج من الواردات والخواطر وتحليلها، مستهلا بثلاثة واردات  متعلقة بمفهوم الوقت:

مراعاة الوقت

لن تتجلى لك حقيقة ذاتك ما لم تراع وقتك، فلا تخضع لزمان لكونه فانيا، ولكون روحك لن تتغير وليست فانية. وكنزك هو الحال الذي أنت فيه، وأمسك لن يعود، وغدك ليس بحاصل، وحياتك هذه حلم، والتي بعد الموت هي الحياة؛ (يا ليتني قدمت لحياتي ). روحك فهمت الخطاب خارج حجاب الزمن؛ (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم  قالوا بلى شهدنا)، واستعصى عليها استحضاره تحت وطأته. احفظ وقتك وتحقق بالله فيه، تسطع عليك شموس المعرفة وتحقق مراد الله من خلقك، وتفز بفرصة العمر قبل فواتها. فهو الموصل إن تحققت به، والحجاب إن غفلت عنه،، وساعتك التي أنت فيها.

لا تكن مطية وقتك بل اجعله مطيتك، وأحكم قبضتك على لحظاتك، فقد تهلك بين فتحة عين وغمضتها. والكل في قبضته، فاحذره لأ نه القهار. وأطلق بصرك فيما حولك وبصيرتك في باطنك، دون أن تشغل بسواه فتحجب عما يمكن أن تلهمه. فإن  صابرت وراقبت وأحاطت بك العناية، وتم لك ذلك رميت سلاحك، وكسرت شراع سفينتك.

لا تطرد يومك  بغدك، ولا تجعل نفسك تعانق ما ليس بحاصل، أو ما لم يحن بعد وقت حصوله. وإذا لم تفعل ذلك كنت غائبا وضيعت إمدادات وقتك، وأسأت الأدب، لأن الله لم يخلق شيئا عبثا. وآياته لم تزل تتجلى لك، ورب حضور منك يثمر علما يورثك القرب. ورب غيبة منك تثمر جهلا يورثك البعد. وإذا أنعم عليك بالقرب لم تعد تشغل بما سيأتي، لأن الذي يملك الكنز لا يعبأ بالفلس. كما أن القرب منه ينفي كل الأبعاد فلا أثر لماضي ولا لمستقبل. ومن تعلق بجمال الله وأسر بنوره حضر ولن يغيب.

من المسلمات أو البديهيات العقلية أن الزمان ذو أبعاد ثلاثة : ماض وحاضر ومستقبل، وهي عبارة عن ثلاث محطات مرتبطة أو ثلاث حلقات في سلسلة واحدة، والإنسان لا ينفك متنقلا بوعيه بين تلك المحطات الثلاث. فبينما هو في حاضره إذا به منجذب نحو الماضي، أو هائم في فضاء المستقبل، فتجده لا يمل من اجترار بعض الأفكار المتعلقة بوقائع وأحداث معينة ماضية لها علاقة بشخصيته؛ إما متلذذا بتذكرها إن كانت سارة، أو متألما إن كانت مقلقة أو محزنة. كما تلقاه في لحظات أخرى قد ألقى بنفسه ي بحر المستقبل، وأطلق العنان بخياله كي يداعب ما يجود به ذلك البحر من نسمات وأحلام. وقد يكون استدعاء الماضي واستحضاره، أو التحليق في فضاء المستقبل، مما يعين الشخص على تحقيق هدف من الأهداف، أو وضع أسس لأفكار وتصورات بناءة، وهذا ما نلمسه في سير الأبطال والقادة، أو العلماء والدعاة. بيد أن عامة الناس ممن ابتلوا بهذا الأمر؛ أي استدعاء الماضي أو التحليق في المستقبل، لا يجنون أي فائدة، بل يلحقون الأذى  بذواتهم، خاصة عندما يغدو ذلك الأمر وسواسا من الوساوس، وهنا تضعف شخصيتهم وإرادتهم، ويصبح وجودهم ثقلا على المجتمع.

ثم إن الشخص المريد البناء، لا يلتفت إلى الماضي أو يرنو إلى المستقبل إلا وهو مشدود بحبل متين إلى حاضره، بل تجده لا يؤمن ولا يهتم إلا بالحاضر، بحيث أن الصور والمعاني الملتقطة من الماضي أو المستقبل، سرعان ما تذوب في اللحظة الآنية، ويبقى الحاضر هو المهيمن والمطلق.

" لن تتجلى لك حقيقة ذاتك ما لم تراع وقتك...." إن من الصفات والمعاني السامية التي ينبغي للمؤمن أن يعيها ويتحقق بها؛ صفة أو معنى اليقين. واليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وأهل اليقين هم أهل الفلاح؛ قال تعالى : "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " (سورة البقرة 4-5). وأخبر سبحانه عن أصحاب النار أنهم لم يكونوا من أهل اليقين، قال تعالى : " وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين" (سورة الجاثية 32).

وعندما يستولي اليقين على القلب يمتلئ نورا وإشراقا ومحبة لله، ورضا وشكرا، وتنتفي عنه الشكوك والهموم والغموم. ومن ثمراته أن يدعو إلى قصر الأمل والزهد والتوكل والصبر. ثم إن استحضار حال اليقين والتحقق به، وممارسته، يجعلك ممسكا بناصية الزمن الحاضر أو اللحظة الآنية، أو الساعة التي أنت فيها. وما ضيع المسلم هذا الكنز إلا بضعف اليقين، ولذا تجده يحس بسرابية الزمن الحسي الذي ينسرب من بين أصابعه انسراب المياه الجارية؛ فلا تكاد يده الإمساك بلحظة واحدة منه. إنه يفلت من بين يديه وهو في ذروة الاعتقاد بامتلاكه! يالها من مراوغة الزمن الحسي. ولو كان العبد من الموقنين بالآخرة، لأفلح في إمساكه بلحظة الآن، ولاحتفظ بحضورها وعمقها وخصوبتها، بل وتجددها وتدفقها وحيويتها. لأن المسلم عندما يوقن بالآخرة فإنه يستحضرها في قلبه، ويتمثل عظمتها ومشاهدها، ويسيح في أرجائها ويشرب من رحيقها، ويتذوق نعيمها وحلاوتها، ثم يفيض على قلبه من معانيها وحقائقها ما يزيده ثباتا وأنسا ويقينا. ثم إن فكرة الآخرة خارجة عن مفهوم الزمن الدنيوي، وبالتالي فإن المسلم الذي يستحضرها بعمق يسبح لا محالة في فضاء الزمن الثابت، أو اللازمن مما يجعله يحس ويشعر بثبات الزمن في دنياه فيمسك دائما باللحظة الآنية.

إن هذه المعاني والحقائق المتدفقة عندما تنسكب في شغاف قلبه ويرتوي بها كيانه، وتلهج بذكرها ألسنة خلاياه، تثمر معرفة لا عهد للعقل بها، أي لا تدخل في دائرة المعرفة العقلية، وإنما هي من ثمار المعرفة القلبية الثابتة اليقينية.

وإذا كان عالم الآخرة لا يخضع لزمان ذي أبعاد ثلاثة كزماننا، لأنه عالم أبدي سرمدي موصوف بالبقاء خلافا لدنيانا الفانية. إذا كان الأمر كذلك، فلا عجب أن يتحقق المؤمن الموقن بالله في وقته وحاله، وينسلخ شعوريا من الزمن الدنيوي الفاني. لأن تمثله بصدق ويقين لعالم الآخرة يجعله يحيا بقلبه ووجدانه في هذا العالم، ولله في خلقه شؤون، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم إذ قال : "عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل "، في حين أن الإنسان الكافر أو الغافل لم يفهم عالم الشهادة ولم يستفد منه بله التشوف إلى عالم الغيب والآخرة قال تعالى : "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " ( الروم ).

إن هؤلاء الغافلين ينحصر علمهم الدنيوي في بعض ظواهر الحياة الدنيا، ويجهلون كل ما يتعلق بحقيقة هذه الحياة وباطنها، ذلك أنهم وقفوا أو رضوا بمستوى القشور والبريق، والزينة الظاهرة، فمنعهم ذلك من الغوص في الباطن لاستخراج اللآلئ واليواقيت، ولو أنهم لم يسقطوا في أسر تلك الزينة والقشور، لجنوا ثمرات فكرية طيبة، بل علوما ومعارف متعلقة بباطن الحياة الدنيا، ذلك الباطن الموصول بالآخرة، أي أن التفكر في باطن تلك الحياة أو باطن عالم  الشهادة، يفضي بالعبد إلى عالم الآخرة، فإذا هو متصل بربه يسبحه على الدوام، مصداقا لقوله تعالى : "  يسبح لله ما في السموات وما في الأرض "، بل قد يقوده سمعه الباطني – وهو في حال الخشوع والتبتل والانقطاع إلى الله – إلى الشعور بتسبيح الكائنات وتذوقه. فإذا هو ذاكر ومسبح، ودائر في فلك التسبيح ذاته، ذاك الذي تدور فيه تلك المخلوقات التي استرق سمعه الباطني تسبيحها، والله على كل شيء قدير.

وفي السياق نفسه يمكن القول أيضا : إن الله تعالى يخبرنا أن ما خلقه من زينة فوق الأرض إنما هو محض ابتلاء أو اختبار، فمن اجتازه بسلام ولم تفتنه زهرة الحياة الدنيا أو ظاهرها، قاده موقفه الحازم إلى كهف الرحمة الذي هو بمثابة باطن الدنيا الموصول بالآخرة. إن فتية الكهف عندما أحسوا بلظى زينة الدنيا وقساوة وظلم أهلها، التجأوا إلى الكهف واعتصموا به، فسكن خوفهم وروعهم بعد أن شملتهم الرحمة ونظروا إلى الآخرة بعين اليقين، وهكذا كلما زهد العبد في ظاهر الدنيا، رغب في باطنها أي في لبها وحقيقتها، فقادته تلك الرغبة إلى الآخرة وربطته بها، فلا يزال عاكفا عليها حتى يلقى مولاه، سبحانه ما أجله. والسر في ذلك العكوف؛ أنه قد انجذب إلى عالم الآخرة تحت تأثير ذبذبات أو إيقاعات التسبيح الكوني الذي انتظم في سلكه إلى الأبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرا عن أهل الجنة : " ويلهمون التسبيح كما تلهمون النفس "[1].

وبعبارة أخرى يمكن القول؛ إن المسافة أو الهوة بين الكافر أو الغافل وعالم الشهادة طويلة وسحيقة جدا. ويبدو أن هذا الإنسان لم يفهم الحقائق التي يمكن أن تستفاد من خلال التدبر في عالم الشهادة، فهذا العالم لا يوحي إليه بشيء من تلك الحقائق ولا يربطه بعالم الغيب، بل ضرب بينه وبين هذا الأخير بسور عظيم لا يستطيع خرقه، لأنه لم يخرق بعد السور الذي ضرب بينه وبين عالم الشهادة. وهكذا لقد حيل بينه وبين العالمين بسبب كفره أو غفلته...

وإذا ما قارنا عقليا بين فضاء ما يقع عليه بصرنا من عالم الشهادة، والفضاء الفسيح اللامتناهي الغائب عنا وعن حواسنا، وجدنا أن عالم الشهادة لا يمثل أكثر من حبة رمل واحدة من رمال شواطئ الأرض، إذا اعتبرنا حبات تلك الرمال ممثلة لمخلوقات وكائنات وكواكب عالم الغيب. وهكذا فإن عالم الشهادة لا يساوي على المستوى الكلي شيئا إزاء عالم الغيب، ومن هنا فإن الارتباط بالعالم الثاني ونشدانه  : " وللآخرة خير لك من الأولى "[2]،أقرب إلى حقيقة الإنسان ومصيره. وما أجمل الأحاديث البنيوية التي تصور الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب والآخرة، وتحث على قطع "المسافة المتوهمة" بينهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"[3] وقال أيضا : "مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" [4].

ومن ناحية أخرى، لما كان الوقت سريع الانقضاء، وكان ما مضى منه لا يرجع ولا يعوض؛ كان أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، فهو رأس ماله الحقيقي. إن المسلم الغافل عن هذا الكنز الثمين سيتحسر عليه لا محالة ساعة الاحتضار، حين تلوح له أعلام الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسد ويتدارك ما فات، قال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين "[5].

وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعضه أو ساعة من الزمن، دون أن يتزودوا منها بعلم نافع أو عمل صالح، أو بمجاهدة نفس، أوإحسان إلى الغير، وكانوا يرون أن من علامات المقت إضاعة الوقت، ويقولون: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

إن الآيات والأحاديث والآثار والحكم الدالة على أهمية الوقت كثيرة لا تحصى، ومن هنا فإن العقلاء والحكماء من المؤمنين الصالحين، بحرصهم الشديد على الاستفادة من الوقت، جعلوا الآن هو وحده المستحق للحياة، لأنه وحده ما يمكن أن تملكه اليد وتقبض عليه دون الماضي والمستقبل.

وهكذا تغدو لحظات الآن بمثابة القوة المتدفقة التي تمنح الشعور بالقدرة على امتلاك الذات، والوقوف في وجه تيار الزمن الجارف، أي الماضي أو المستقبل، ومنعه من سحق الذات، والتهام حضورها.

إن هذا الزمن بماضيه ومستقبله، يكون مدمرا للذات عندما يستعمله العقل استعمالا سلبيا، وذلك بإيعاز ووحي من النفس الأمارة، فيكون من نتائج هذا الاستعمال السيئ؛ سلب الذات حضورها الذي يحقق لها كمالها، فتنساق في أودية السكر والغيبوبة. في حين يكون بناءا ومفيدا للذات، وذلك عندما يستعمله العقل المنور بنور الله استعمالا نافعا، وذلك بتنبيه ووحي من النفس اللوامة، أو النفس المطمئنة، فتكون النتيجة مزيد من وعي الذات وحضورها، لأن زمن الآن في هذه الحال يستفيد من الماضي والمستقبل، بل يلتهمهما ويستوعبهما، إذ هو جامع للأزمنة في حيويتها وتواليها. معنى هذا أن الماضي المستفاد منه، أو المستقبل الباعث على العمل والاستشراف، كلاهما ينصهران، بقوة الحضور الذاتي، في بوتقة زمن الآن. وهنا تعي ذات المؤمن في آنها الحضور الكلي للوجود، كما تتجلى لها العبودية المطلقة للكائنات، فتقتمص سر الوجود والغبطة الأبدية. وإذا ما كان هناك من ماض تتألم ذات المؤمن لتذكره، فإنه الماضي النقي؛ ماضي الفردوس القديم، ماضي : " اسكن أنت وزوجك الجنة" (البقرة). وإذا كان هناك من مستقبل تعاني هذه الذات أشواقه وحرارته وحنينه، فإنه مستقبل التواصل المتجدد مع أصولها الأولى التي انفصلت عنها. ومن هنا كان المؤمن الحق هو ذاك الغريب الذي يعبر السبيل؛ لحظة الآن، الرابطة بين الفردوس المفقود والفردوس الموعود، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ".

هذا ما حضرني من أفكار واستنتاجات وإشراقات حول الواردات  الثلاثة المتعلقة بالوقت.

نص مقتطف من كتابي: "تجربتي الصوفية"، منشورات الزمن، مطبعة النجاح، الدار اليضاء/المغرب. ص 117 وما بعدها.


[1] - انظر الحديث في الترغيب والترهيب للمنذري.

[2] - سورة الضحى الآية 4.

[3] - صحيح رواه البخاري.

[4] - صحيح الجامع الصغير ج2، ص: 989.

[5] - المنافقون / 9.

إرسال تعليق

0 تعليقات