مناظرة صوفية - الجزء الرابع

علي الصوفي
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
أشكر فضيلة الأستاذ سيدي فارس النور على ما تفضّل به من النصيحة للأخ الدكتور عبد الله الشارفبرقّته المعهودة وشفقته العارمة , وكذلك أتوجّه بالشكر إلى شيخنا سيدي الملثّم أحمد الفاضل فإنّك تجد في كلامه النور الصادق والحكمة البالغة ولا أزكّي الأستاذين ولا أزكّي على الله أحدا وإنّما كلمة حقّ أراها ضرورية في هذه الصفحة.
العبد الضعيف من طبيتعه لا يحبّ الجدال الفارغ الذي لا يقوم على أساس ولا منهجية وهذا واضح عند كلّ من قرأ بتمعّن في المشاركات وردودها.
ليعلم من لا يعلم أني العبد الفقير، ما كنت سأتصدّر للردّ على موضوع الأخ عبد الله الشارف، لو لا أنّني قرأت لأحد ساداتنا مدحا لكلامه لحسن ظنّه من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهمّ لأنّه لم يستوف قراءة موضوع الأخ عبد الله الشارف كاملا، على كلّ أنا اعتبرت ذلك المدح سبق قلم بحسن نيّة , فهذا في الحقيقة الذي دفعني للردّ بتلك الحدّة في البداية على الأخ عبد الله الشارف، فهي ردّة فعل على ذلك المدح أن يغترّ به من لا خلفية له عن التصوّف وأهله – فهذا سبب الردّ الأساسي – والسبب الثاني أنّ الأخ عبد الله الشارف عرّف نفسه بصفة دكتوريته وهذا أمر لا بدّ من اعتباره لأنّ الصفة المرموقة تضفي على الموضوع زيادة اعتناء من طرف القارئ , وإلاّ ما كانت ردودنا في بدايتها لهذا الحدّ , والسبب الثالث أنّ لبّ مراد ومقصود الأخ عبد الله الشارف، هدم التصوّف بزعمه على معرفة به كذوق وتجربة. فتصدّرت للردّ عليه لأبيّن له خلله في فهمه للتصوّف جملة وتفصيلا، وكذلك تناقضه الذي لا يخفى , ثمّ السبب الرابع : لاحظت أنّ الأخ عبد الله الشارف يكتب الردود ولا ثقة له كثيرة فيما علمه أو جرّبه من التصوّف، وقد لاحظ سيدي الملثم أحمد الفاضل هذا فكتبه إليه وعلّق بأنّ الأخ عبد الله الشارف في حيرة من أمره، والعبد الفقير أيضا التمست هذا، وما شئت أن أكتبه حتّى لا أخدش مشاعر من أحاوره . من جهة أخرى لاحظت اليوم وفي الردّ الأخير للأخ عبد الله الشارف ارتفاع مستوى الكتابة، وكذلك السبك العربي في التعبير أكثر ممّا مضى في الردود السابقة، ولو لا ثقتي في الأخ عبد الله الشارف، والتماس العذر له لربّما لما يعانيه من قلّة الوقت وعدم جهوزية الردود، وخاصّة أنّ الوقت نهاية رمضان مع قدوم العيد، وكذلك حلول السنة الدراسية , وإلاّ لقلت أنّ كاتب ردّ اليوم ليس هو كاتب ردّ الأمس وقبل الأمس , مع أنّ الكاتب هو الأخ عبد الشارف حفظه الله.
بالنسبة لقولي البارحة أنّ العبد الفقير سينهي ويغلق النقاش في هذه الصفحة لما رأيته من عدم جدوى هذا النقاش، وعدم منهجيته، وعدم علميته من الطرف المقابل، والذي يقرأ بتدبّر وتمعّن من بداية الحوار، يجزم بهذا بلا ريب.
الأخ عبد الله وإلى الآن لم يجب على أيّ سؤال وجّهته إليه : وإلى الآن أنتظر تعريفه لمعنى الحال ومعنى المقام، وما دليله في تعريفه ؟ ثمّ ليذكر لنا تعريفات ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله تعالى في هذا الخصوص وما دليلهما ؟ وقد سألته أيضا : من قال من العلماء أنّ المريد يفنى في صورة الشيخ ؟ ثمّ سألته عن الأوراد ….وكثير من الأسئلة فما أجاب ولو على سؤال واحد.
أقول وبصدق : الأخ عبد الله الشارف المحترم خائف من الحوار , وليس له ثقة بعلمه , ولا أعلم سبب ذلك فإلى الآن ما أخرج لنا علمه ولو اقتباسا من كتب الوهابية . ربما أنّه أستاذ في الفلسفة وكذلك يدرّس في كليّة أصول الدين. فكان بودّنا لو أعطانا نبذة يسيرة عن منهاجه الدراسي الأكاديمي في الشريعة الإسلامية، وفي أيّ فنّ من فنونها يناظر. لذا سألته فيما سبق أن يعطينا نبذة ولو وجيزة عن رحلته الدراسية في علوم الشريعة الإسلامية، وما مدى تخصّصه فيها , لأنّنا حملنا صفته على محمل العلم والجدّ والمناظرة النزيهة والمفيدة وليس تناطح الأكباش.
بالنسبة للأخ عبد الله الشارف اعتبر أنّ أسئلة الفضلاء من ساداتنا الفقراء، كفيضلة الشيخ سيدي الملثم أحمد، والأخ أبي العداس الصوفي، وكذلك مشاركات سيدي النجار الشريف، وتعليقات الأستاذ سيدي فارس النور أنّها في غير صميم الموضوع، وأنّها لا ترتقي إلى مستوى ردود العبد الضعيف، ولا أدري لماذ يقول الأخ عبد الله هذا الكلام، بل هي ردود جميلة موفّقة وليس هي ردود مناظرة، بل مساهمات قد تكون جانبية كتبسيط للدخول في الأهمّ، إلاّ أن أسئلة الشيخ سيدي الملثم أحمد فهي في الصميم، بل العبد الضعيف استفدت منها وأعجبتني كثيرا فإنّها ما وردت على خاطري، ولا على قلبي مع سلامتها الشرعية والعقلية والنقلية .
أمّا ردودك أنت فضيلة الأخ عبد الله الشارف فهي التي لم تكن في صلب الموضوع، والدليل على ذلك مناقشتك لتوقيع العبد الضعيف، فهذا أمر لا يكون ناجما إلاّ من عجز وتحويل المناقشة عن طريقها، وهذا أسلوب نعرفه جيّدا وخاصّة عند إخواننا الوهابية فهم معروفون بهذا , وهذا الأسلوب رأيناه وشاهدناه عند القنوات الغربية، وخاصّة عند بعض أعداء الإسلام في مناظرتهم مع علماء الإسلام، كما يحدث هذا كثيرا في القنوات الفرنسية، فهو أسلوب غربي يهودي بالأساس، ولا أتّهم الأخ عبد الله بهذا حاشا وكلاّ، ولكن هو سرد لوقائع معروفة ليس إلاّ , وعليه فإن كان أحدنا خرج عن الموضوع فهو الأخ عبد الله نفسه، و من يتمعّن يدرك هذا.
أمّا ردّ اليوم من الأخ عبد الله الشارف ومحاولته جبر ما إستدلّ به على فتوحات ردوده من حيث قوله أو تيمّم ببدعة… فقد إعترف ضمنا أنّ إستدلاله بالآية الشريفة كان إستدلالا خاطئا، لكنّه اعترف به ضمنا ولم يعترف به علنا ولو كنت مكانه لاعترفت به علنا متى كنت خاطئا.
ثمّ جاء يخبرنا أنّ في توقيع الشيخ الأكبر رضي الله عنه ترفّع عن الناس , وهذا فيه من قلّة الفهم ما فيه، لأنّ الشيخ الأكبر توجّه بالخطاب إلى غيره في قوله : توضّا بماء الغيب إن كنت ذا سرّ …
فما ذكر نفسه ولا مدحها بل أراد لغيره الرفعة والرقيّ , فلو حملنا قول الشيخ على أنّه يترفّع ويمدح نفسه فيكون قياسنا أيضا بنفس منطقك أنّك أيضا مدحت نفسك ورفعتها في قولك توضّأ بماء السنّة .. وحقّرت غيرك في قولك : أو تيمّم ببدعة … فأين الهروب , لإنك كنت تحسّ في نفسك أنّك ما أردت بذلك رفعة وما جال هذا الأمر ببالك , قلنا لك : الشيخ الأكبر أولى منك بذلك …أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم …الآية
وهنا توجّهت حضرة الأخ عبد الشارف فردود فتوحاتك مرفوضة : أوّلا لأنّه ردّ فعل على ما قاله الشيخ الأكبر, وردّ الفعل لا يكون فتوحات في منهاج التصوّف، بل هو تعصّب لرأي، ولهذا طالبتك منذ البداية أن يكون صدرك واسعا – فكما يقولون عرفت شيئا وغابت عنك أشياء , نحن أيضا كذلك ولا جمع العلم إلاّ الله تعالى، فحتّى موسى عليه السلام عوتب في ذلك كما تعلم فنقف عند حدود معرفة أقدارنا، ولا نترك الشيطان يستزلّنا وقد قيل عاش من عرف قدره، ووقف عند حدّه أونزل دونه .
أمّا لو تجرّدت للبحث والحوار المستقيم الهادئ والمنهاج العلمي القويم، لأفدتنا من بحر علومك طرفا، وقد تستفيد أنت أيضا من نهر علومنا وقد قيل : يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، ولك في قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام أبلغ برهان.
أخي عبد الله الشارف الفاضل المحترم :
إنّ التجرّد للبحث ومعافسة التجارب أمر أحبّه العلماء الكبار، وقد ألّف الشيخ البوطي حفظه الله كتابه: ”شخصيات استوقفتني”، نبذة عن هذا النوع من العلماء , وقد كان ابن تيمية وابن حزم كذلك من هذا الصنف إلاّ أنّهم أخطؤوا كثيرا لغلظة الحسّ فيهم , لأنّ ميدان التصوّف ميدان رقيق شفّاف من عالم الإحسان، لا يمكن البحث فيه بجمود الروح، وغلظة القلب، وبلادة العقل , نعم أن يتجرّد من له مقدرة غير مزيّفة، وصحيحة، أن يخوض خضمّ هذا البحر فلا لوم عليه بل يجب برأيي في حقّه، وإلاّ فكيف ستلد هذه الأمّة نوابغها وفلاسفتها وباحثيها الكبار، لكن لا بدّ من شروط ولوازم كثيرة معلومة عند أهل العلم والفهم، فلا أظنّها تخفى على من هو في مثل مستواكم.
كذلك لذي ملاحظة : إسم العبد الفقير هو علي الصوفي، وليس أبو علي الصوفي، فلا أدري من أين إقتبست هذا، ففي البداية كنت تناديني بعلي الصوفي أمّا في الردود الأخيرة فأصبحت عندك أبا علي الصوفي , على كلّ قد تكون سبق قلم , هذا ولتعلم أخي بأنّ أخاك هذا ليس بباحث، فأين أنا من هذا اللقب وإنّما العبد الفقير : مريد صوفي شاذلي , فلو وصفتني بالباحث، فإنّك تسقط تصوّفي وكتاباتي في منهاجه , بل فقير صوفي شاذلي له شيخ ومدرسة، وهو في كفالة شيخه أزوره في زاويته كلّما سنحت الظروف، أمّا الآن فالعبد الفقير في المدينة التي قمت فيها بتجربتك الصوفية، وكذلك لنا إخوان في جامعة السوربون منهم الأستاذ عبد الرؤوف وهو دكتور مدرّس هناك والحمد لله، فقد أخذ على شيخي طريق الشاذلية، ولنا إن شاء الله معرفة بما عليه أحوال من يدّعون التصوّف في مدينة باريس، لذاك أردت أن أناقشك في تجربتك الصوفية في مدينة باريس .
هذا واعلم بأنّك لست الأوّل ولا الأخير الذي نشأ نشأة إسلامية صوفية ثمّ غيّر رأيه ،, بل هناك من نشأ صوفيا ثمّ تشيّع , وهناك من نشأ صوفيا ثمّ توهّب , وأيضا في المقابل هناك من نشأ وهّابيا ثمّ تصوّف، ومنهم من نشأ شيعيا ثمّ تصوّف أو توهّب وهكذا… فليست تجربتك دليلا على الواقع والحقّ المحتوم.
وكذلك يجب أن يعلم : أنّ العبد الفقير والكثير من العلماء هنا، لا يناظر أو يحاور أو يناقش من أجل ذات الحوار أو النقاش، بل والله لا يخطر هذا على بالي , وما حاورت مرّة أحدا فأحببت أن أغلبه لمجرّد الغلبة، بل أحاوره إظهارا للحقّ الذي أراه بدلائل الحقيقية .
وبالجملة : التصوّف موجود لازم ما رفضه أحد، بل فقط عاند من عاند لا لنكران التصوّف من أصوله، بل هذا تصوّف السلف كتب فيه كلّ عالم وأقرّوه فما أنكره أحد. وأكبر دليل تراه في الجزء التاسع من فتاوى ابن تيمية المعوّل عليه عندكم، وكذلك وهو الأهمّ في كتاب مدارج السالكين فهو كتاب صوفي بكلّ المقاييس، إلاّ ما شذّ فيه مؤلّفه ممّا خلط فيه بين هذا وذاك.
وأنا أستغرب من فضيلتكم كيف تنكرون التصوّف برمّته فمن سيصدّقكم في ذلك ؟ فيجب مراعاة الكلام : قفوهم إنّهم مسؤولون , وكذلك تعلم أنّ المرء ليتفوّه بالكلمة لا يلقي لها بالا، يهوى به في نار جهنّم سبعين أو أربعين خريفا , وخاصّة إذا تعلّق الكلام بدين الله تعالى فالأمر أشدّ خطورة.
وما دفع الناس اليوم في هذا الزمان إلى نكران التصوّف هو الغرور ودعوى العلم ومحبّة الرئاسة , وقد قال الأستاذ الشيخ سيدي الملثّم أحمد كلمة تكتب بماء العين , قال : قد يكون الإنسان فاشلا في حياته فيأتي إلى الدين ليترأس فيه، هذا معنى كلامه إن أصبت مقصده في الوهابية خاصة.
دين الله أخي أعظم ممّا يكتبه الوهابيون بكثير, فلو نترك الحبل على الغارب للوهابية لهدموا الدين برمّته في بضع سنين، لأنّهم لا يعرفون روح الدين ولبّه.
هذا واستغفر الله العظيم لي ولك , اللهم أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتّباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه – آمين
والحمد لله ربّ العالمين
المعذرة على الإطالة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد الله الشارف
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وبعد،
حضرة الأخ الفاضل علي الصوفي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
في البداية، أخبرك كما أخبر الزوار والقراء الأفاضل أنني أتأخر بالإجابة بضعة أيام لكثرة الأشغال الفكرية، وإن كان إنجاز الجواب أو الرد لا يستغرق أكثر من ساعتين أو ثلاث في مكتبتي الخاصة. ثم إنني سعيد بهذه المناظرة العلمية التي أرجو من الله أن يستفيد منها القراء على اختلاف مداركهم ومشاربهم. وقبل الدخول في صلب الموضوع ومعالجة النقط الهامة الواردة في جوابك، أود أن أناقش بعض الملاحظات والتساؤلات الجانبية
منها قولك: وقد لاحظ سيدي الملثم أحمد الفاضل هذا فكتبه إليه وعلق بأن الأخ عبد الله الشارف في حيرة من أمره والعبد الفقير أيضا التمست هذا… دعني أقول لك يا أخي: أنت الذي في حيرة من أمرك، لأن الله ابتلاك بعبد مسلم خبر التصوف ومارسه وتعمق فيه، بع أن قرأ مئات الكتب والمقالات والأبحاث الصوفية بالعربية والفرنسية، وذاق من (اللذة الباطنية) ما شاء الله أن يذوق من كثرة الذكر والتأمل والتدبر، وسمع وأحس وشعر بثورة وجدانية هائلة. حتى إذا كان قاب قوسين أو أدنى من الزيغ والضلال والانحراف العقدي، من الله عليه بالتوبة والأوبة والطمأنينة. ومن باب شكر النعم، عاهدت الله أن أخبر المسلمين بهذه التجربة الباطلة، وأحذرهم من مغبة الوقوع فيها وفي وحل التصوف الفلسفي والطرقي. وفي علم النفس المعاصر شيء يسمى الإسقاط، ومعناه أن الشخص الذي يعاني أمرا نفسيا معينا قد يسارع إلى إسقاطه على غيره كي يظفر بقسط من الأمن النفسي. ولله ذر المثل العربي: “كل إناء يرشح بما فيه”، إذ قولك: “وإلا لقلت أن كاتب رد اليوم ليس هو كاتب رد الأمس…”، دليل واضح على أن حيرة نفسية قد اعترتك، وكان يكفيك أن تعمل عقلك بموضوعية في كتاباتي التي اطلعت على بعضها في موقعي الإلكتروني www.charefab.com لتكون فكرة عن مستوى كتابتي وأسلوبي وطريقتي في تناول الأفكار ومعالجتها، وأحيلك مثلا على مناقشتي لأفكار د.عابد الجابري، ود.عبد الله العروي، ود.فاطمة المرنيسي في باب الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر، أو مناقشتي لموضوع الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، وهذه الأعمال نشرت في كتابين منذ عشر سنوات. وإذا أردت الإلمام بمستوى لغتي الأدبية، ولست أديبا، فاقرأ في موقعي أيضا:”واردات وخواطرإيمانية”، وهو موضوع له علاقة بالرقائق وتزكية النفس… كان ذلك يكفيك جوابا ويدفع عنك حيرة الشك. ثم إن الأجوبة والكتابات، كما يعلم الجميع، قد تختلف من حيث القوة والجزالة والحبكة والإحاطة إلى غير ذلك باختلاف ظروف ووضعية الكاتب النفسية والعقلية.
وبالنسبة لي مثلا، إن مستوى جوابك الأخير أقل من مستوى جوابك السابق، لأسباب منها :
1_الحيرة المشار إليها آنفا، وكان بإمكانك تجنبها حفاظا على وحدة الموضوع والمنهج.
2_ ما زلت تثير مسألة إخوانك المشاركين، علما بأنني أناظرك وحدك، كما بينت سابقا، حرصا مني على الفائدة وتلافيا لتبديد الطاقة.
3_ ما زلت مصرا على إثارة موضوعي الحال والمقام وتعليقي على كلام ابن عربي، مع أنهما موضوعان جانبيان بالنسبة لصلب الموضوع الذي هو شيخ التربية وشيخ العلم والتعليم
4- اتهامك لي بأنني وهابي، ولست كذلك، والله يشهد أنني لا أهتم بهذا الموضوع بتاتا. واتهامك لا يقوم على دليل، ثم إنه ليس من الضروري أن يكون كل من انتقد التصوف الفلسفي والطرقي من المسلمين وهابيا.وهذا دليل أيضا على حيرتك المشار إليها.
5_ قولك عن أسلوبي في المناقشة بأنه “…أسلوب غربي يهودي بالأساس”
أقول لك أخي الفاضل: تذكر أن الله سبحانه وتعالى نهانا عن الهمز واللمز، كما أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه لم يكن طعانا ولا فاحشا ولا بذيئا، وفي الحديث الصحيح: “إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها”. كما أقول لك: إنك بهذا السلوك رميت نفسك بثالثة الأثافي. إنها النفس وما أدراك ما النفس.
6_ قولك: “الأخ عبد الله الشارف المحترم خائف من الحوار وليس له ثقة بعلمه…”. أخي الفاصل: لو كنت خائفا من الحوار لما خضته أو لتوقفت عنه. لكن أخشى ما أخشاه هو أن تنسحب وتغلق باب الحوار وتحرم القراء من ثمرات المناظرة.
أخي الفاضل علي الصوفي: لطالما وصفت كلامي بأنه خارج عن الموضوع، لكن ما هذه الهلوسات التي وقعت فيها ؟ :
شكك في قدرة مناظرك على الكتابة، رميه بالحيرة والخوف من الحوار، تشبيه أسلوبه الحواري بأسلوب اليهود… أهي من صميم الموضوع أم هي أعلام حرب نفسية سافلة ودنيئة ؟؟
بعد هذا الكلام الناتج عما أثرته من تساؤلات مهلوسة، ألج صلب الموضوع وأناقش ما يستحق المناقشة، وأفتتح بمسألة الشيخ حيث قلت : “من قال من العلماء أن المريد يفنى في صورة الشيخ ؟” أجيبك بما يلي:
قال عبد المجيد بن محمد الخاني النقشبندي في كتابه “السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية” ص 22-23 اسطنبول 1401-1981: “اعلم أيها الأخ المؤمن أن الرابطة عبارة عن ربط القلب بالشيخ الكامل، … وحفظ صورته بالخيال ولو عند غيبته أو بعد وفاته، ولها صور؛ أهونها أن يتصور المريد صورة شيخه الكامل بين عينيه، ثم يتوجه إلى روحانيته في تلك الصورة، ولا يزال متوجها إليها بكليته حتى يحصل له الغيبة أو أثر الجذب… وهكذا يداوم على الرابطة حتى يفنى عن ذاته وصفاته في صورة الشيخ… فتربيه روحانية الشيخ بعد ذلك إلى أن توصله إلى الله تعالى، ولو كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، فبالرابطة يستفيض الأحياء من الأموات المتصرفين”.
ما أظنك تستطيع الاعتراض على هذا الدليل النقشبندي لأنه دليل دامغ، ثم إن صاحبه من بيت التصوف وشاهد من أهله.
أما فيما يتعلق بقولك: “إن لب مراد ومقصود الأخ عبد الله الشارف هو هدم التصوف”، وقولك: “أنا أستغرب من فضيلتكم كيف تنكرون التصوف برمته”.
أجيب بأنني لم أقصد قط في كلامي النقدي للتصوف هدمه برمته أو رفضه جملة وتفصيلا، ولا أظن أن عاقلا من المسلمين ينحو هدا المنحى. وأسوق لك نصا من نصوص التوبة في تجربتي الصوفية، التي ذكرت لي أنك قرأتها ومع ذلك لم تنتبه إلى موقفي من التصوف:
” بيد أن هذا لا يمنع الباحث الحصيف والناقد المنصف، من ذكر الصفحات المشرقة من أقوال وكتابات الجيل الأول من الزهاد والمتصوفة المسلمين أمثال الحسن البصري، والفضيل بن عياض، ووهب بن منبه، وبشر الحافي الحارث، والمحاسبي وأبو القاسم الجنيد وأبو سعيد الخراز، وغيرهم ممن عاشوا في القرنين الثالث والرابع للهجرة. فقد خلف هؤلاء الرجال من الأقوال حكما، ومن المعارف دررا ولآلئ جادت بها قرائحهم وترجمتها ألسنتهم وسطرتها أقلامهم، يتذوق قارِئها حلاوة معانيها، ويتنسم من خلال كلماتها صدق لهجة أصحابها، ومدى محبتهم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ومجاهدتهم في سبيل تزكية النفس وتربيتها والسمو بها، ومدى شغفهم بالزهد والعبادة والتأمل والتدبر والمراقبة والمحاسبة. لقد كانت ألفاظهم كالتباشير مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس تعبق بالراح والريحان، كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه، ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها.
إن هؤلاء الرواد الأوائل من الزهاد والمتصوفة قد أرسوا، بما خلفوه من تراث زاخر ينبض صدقا وحيوية، قواعد متينة وطرقا تتعلق بمجال تربية النفس وتزكيتها ومداواة أمراض القلوب، والحض على طرق باب التوبة ونبذ الرذائل والتحلي بالفضائل، ولزوم التقوى وتفيئ ظلال الأنس والمحبة، مستأنسين ومسترشدين بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين من فقهاء وعلماء السلف الصالح. ثم إن هذا التراث الثمين الذي يعبر عن أدب الزهد والرقائق، يتناغم وينسجم مع روح الوحي وأسس الهدي القرآني، إلا أنه لا يخلو من هفوات وأخطاء وانزلاقات، وجب على علماء الأمة وفقهائها التنبيه عليها وإصلاحها.
أما فيما يخص التراث الصوفي المتعلق بالأجيال والقرون اللاحقة، فإنه قد ارتوى من عيون الفلسفة اليونانية، وعقائد اليهود والنصارى والفرس والهنود، ودبت في روحه نظريات الفيض والإشراق والحلول ووحدة الوجود، فأضحى تراثا لا علاقة له بزهد وتصوف الجيل الأول، وغدت الخيوط التي تربطه بالإسلام أوهن من خيوط العنكبوت. ثم نبتت نبتة التصوف الطرقي، وازدادت الهوة اتساعا حيث تعقدت التربية السلوكية بظهور نظام المشيخة الطرقية، فتعددت الطرق الصوفية، وتفنن الشيوخ في وضع القواعد والضوابط ذات الطابع التكليفي، وكذا إلزام المريد بأذكار وعادات وأعمال كثيرا ما تتنافي مع مبادئ السنة النبوية وروحها.
كما واكب تطور التصوف الطرقي أدب نثري وشعري، ملئ بموضوعات تتعلق بمدح الشيوخ وتعظيمهم، وبشطحات تعبر عن حالات نفسية ووجدانية غير منضبطة؛ لا تخضع لعقل ولا شرع، أو موضوعات تركز على كرامات الشيوخ وقدرتهم على التأثير في النفوس، والتدخل في شخصية المريدين وتوجيه إراداتهم، بل التدخل والتصرف في أمور أخرى لا داعي لذكرها، أو أذكار وأوراد وأحزاب من وضع الشيوخ، يتلوها ويرددها المريدون في زواياهم أو في بيوتهم كل يوم؛ وهي كلمات وصيغ أو نصوص نثرية إذا عرضت على الكتاب والسنة اتضح زللها وانحرافها”.
والخلاصة أنني أحببت التصوف واستفدت، وما زلت، من حكم وأقوال متصوفة الرعيل الأول رحمهم الله، الذين كانوا محل مدح وثناء من قبل جمهور العلماء والفقهاء، على مر العصور. ولقد تجدني بين الفينة والأخرى أتصفح بشغف كبير كتب ورسائل المحاسبي أو كتاب “صفة الصفوة” لابن الجوزي وغيرها من الكتب والرسائل الزاخرة بالحكم والمواعظ والوصايا الجليلة، بأسلوب سلس عذب رائق يتدفق من أعماق قائله مكلل بالصدق والإخلاص. نعم إن تلك الكتب والرسائل النقية الصافية لاتشبه الكتب والرسائل الصوفية الفلسفية التي وضعها أمثال الحلاج وابن سبعين وابن عربي والسهروردي، وغيرهم من أقطاب الصوفية المتفلسفة الذين أفسدوا التصوف بنظرياتهم في الحلول ووحدة الوجود وبالشطحات والهلوسات… كما أن تلك الكتب والرسائل لاتشبه أيضا ما سطره كثير من شيوخ الطرق الصوفية أو تلاميذهم من الطامات والمنكرات، تحت إسم الكرامات، وما وضعوه، وما فتئوا، من الأكاذيب والضلالات لاصطياد العوام والبله من الناس.
هذا وإني تأسيا بثلة من الكتاب والمفكرين، قد شرعت بحول الله في المساهمة في توظيف المفاهيم الصوفية التربوية النقية في علم النفس الإسلامي: إن شئت فاقرأ في هذا الصدد مقالي بعنوان “بناء الذات بين الذكاء الوجداني والتربية الإيمانية” في موقعي الإلكتروني. وميدان توظيف المفاهيم والرؤى الصوفية البناءة في التربية وعلم النفس الإسلامي ميدان يشتغل فيه الآن مئات الدكاترة والباحثين المسلمين خاصة العاملين في المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

علي الصوفي
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
” وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا “.

إرسال تعليق

0 تعليقات