في رحاب الزواج

حيرة أصلية لا تسكن بغير حواء:
مما لا شك فيه أن الانعكاسات السلبية للحضارة الغربية على العالم الإسلامي والبعد عن الينبوع الروحي والإيماني الذي يعيشه المسلمون يعتبران عاملين أساسيين في خلق جو من التوتر والاضطراب النفسي في نفوس كثير من الغافلين من أبناء المسلمين. فالإقبال على الإنتاج المادي والثقافي لتلك الحضارة بدون تمحيص،  وإتلاف رسم الإطار الفطري السليم، نتج عنهما نوع من القطيعة المعنوية بين المسلم وحقيقته الفطرية والدينية،و أصبحت ترى كثيرا من المسلمين يعيشون ألوانا من القلق النفسي دون أن يجدوا لذلك تفسيرا، وكثير منهم شباب حيارى لا يفهمون دواعي حيرتهم  وقد يتجاهلون ذلك أحيانا.
والحقيقة أن هناك حيرة أصلية لا تسكن بغير حواء؛ ذلك الكائن الذي يتم به كمال دينك وتستعين به على عبادة الله، ورب نظرة منك إليه تقربك من الله وتستمطر بها رحمتك, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الرجل إذا نظر إلى امرأته ونظرت إليه نظرالله إليهما نظرة رحمة،فإذا أخذ بكفها سقطت ذنوبهما من خلال أصابعهما"1
ويستحسن للمسلم عند اختياره للزوجة، أن يطلع- عن طريق بعض أقاربها أو أصدقاء أفراد عائلتها- على بعض أوصافها الخلقية والسلوكية، وكذلك فيما يتعلق بالطبع والمزاج، حتى ينظر هل هناك من تقارب وانسجام بين سمات طبعه وطبعها. يقول ابن قيم الجوزية: "قد استقرت حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه وانجذاب الشيء إلى موافقه ومجانسه بالطبع وهروبه من مخالفه وتفرقه عنه بالطبع. فسر التناسب والتشاكل والتوافق والتمازج والاتصال في العالم العلوي والسفلي إنما هو التناسب والتشاكل والتوافق. وسر التباين والانفصال إنما هو بعدم التشاكل والتناسب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر، فالمثل إلى مثله مائل إليه صائر والضد عن ضده هارب وعنه نافر. وقد قال تعالى: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها" (الأعراف:189) فجعل سبحانه علة سكون الرجل إلى امرأته كونها من جنسه وجوهره. فعلة السكون المذكور – وهو الحب- كونها منه.2
إذا تزوج العبد فقد استكمل دينه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى أهمية الزواج وعلاقته بالدين والعبادة: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر"3لقد نبه الرسول الكريم في هذا الحديث وفي كثير من تعاليمه السامية إلى الوسيلة الطاهرة التي تعين المسلم على التقوى وتهذيب النفس. إن المسلم القادر على الزواج مهما اجتهد في العبادة وعمل على التحلي بالشيم الفاضلة، فإنه لن يشعر بالطمأنينة ما دام غير متزوج، ولعل الفراغ الداخلي الذي يشعر به الأعزب من أشد أنواع الفراغ وطأة على النفس، ولو كان لهذا الأعزب أذن باطنية لتقطعت أوصاله عندما يسمع أنين الفطرة ونداءها الحزين يطالبانه بالزواج، ثم إن طينته البشرية التي يعمل على سترها بنور الأخلاق والفضائل، تظل عارية باستمرار ما لم يحلها بلباس الأنثى, قال تعالى:"هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"(البقرة 186)؛ إن اللباس هو الستر الذي يستتر به الإنسان، وهو في الوقت ذاته مفصل على قده لا ينقص ولا يزيد ، والرجل والمرأة ألصق شيء بعضهما لبعض، يلتقيان فإذا هما جسد واحد وروح واحدة، وفي  لحظة يذوب كل واحد منهما في  الآخر، فلا تعرف لهما حدود، وهما أبدا يهفوان إلى هذا الاتصال الوثيق الذي يشبه اتحاد اللباس بلابسه، ثم هما ستر، كل واحد للآخر، فهما من الناحية الجسدية ستر وصيانة، وهما على  الدوام ستر روحي ونفسي، فليس أحد استر لأحد من الزوجين المتآلفين يحرص كل منهما على عرض الآخر وماله ونفسه وأسراره أن ينكشف منها شيء فتنهبه الأفواه والعيون، وهما كذلك وقاية تغني كلا منهما عن الفاحشة وأعمال السوء، كما يقي الثوب لابسه  من أذى الهاجرة والزمهرير. 4
الأنوثة الطاهرة مدرسة نفسية:
في إطار الوظيفة التكاملية التي يقوم بها كل من الزوج والزوجة المسلمين في حياتهما الزوجية، قد لا نبالغ إذا قلنا بأن سلوك الزوجة الصالحة يكون بالنسبة للزوج أحيانا مصدرا يستمد منه شحنات روحية يستعين بها على تحسين بعض صفاته الخلقية، أو على تفجير جانب من طاقته الفطرية فيكتسب أخلاقا تزيده بهاء ومروءة. وقد تكون المرأة خير مثبت لزوجها في طريق الدعوة، ونشر الفضيلة، والصبر على البلاء، وأفضل مثال على ذلك ما يمكن لمسه في  سلوك خديجة أم المؤمنين مع  الرسول زوجها محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كانت رضي الله عنها ملاذه الوحيد، وركنه الشديد الذي  يأوي إليه بعد التحنث في غار حراء، وكانت تطمئنه وتزيل عنه الروع عندما باغته الوحي لأول مرة، كما آزرته رضي الله عنها في دعوته.
نعم إن الزوجة الصالحة مدرسة نفسية تتبلور في أحضانها كثير من الأفكار والمعاني السامية، فقد يكون المسلم قبل زواجه مصابا بنوع من الأنانية، لكنه لا يلبث بعد الزواج أن يفيض كرما وتسامحا وعطفا، لأنه أصبح يعيش في حضن كائن يستلزم الحنان والعطف المتواصلين، كما أن جوانب البراءة والرقة والأنوثة المتمثلة في المرأة تحرض – بطريقة طبيعية- ذلك الجانب العاطفي والإنساني، وتنادي بلغة روحية وعذبة، كل صفات الخير والإحسان المتأصلة في فطرة الزوج المسلم، فتنقلب الغلظة شهامة ومروءة، والوحشة أنسا وفرحة، واللامبالاة تعلقا وتمسكا بأذيال الفضيلة، وتحل اليقظة محل الغفلة، ويشعر الزوج بأنه راع ومسؤول. وهكذا – بفضل الزواج والاقتران بالمرأة الصالحة، يخرج  المسلم من دائرة العزوبة الضيقة إلى دائرة  الرعاية والمسؤولية والتناسل و الأمانة والاستخلاف في الأرض.
من الأسر الجزئي إلى الأسر الكلي:
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم"6أي أسيرات. يفيد الحديث أن على الزوج المسلم أن يعامل زوجته معاملة حسنة ويراعي فيها جانب الأنوثة والعاطفة، ويجتنب الإجحاف ولا يحملها ما لا تطيق خصوصا وأنها أسيرة عنده وهو أمير في بيته. وكما لا ينبغي للزوج أن يفهم الأسر فهما خاطئا فيتصرف مع زوجته تصرفا لا يليق بالمسلم ، كذلك لا ينبغي للزوجة أن تخطئ في إدراكها لمعنى الأسر.إن الأسر في هذا المجال ينطوي على أبعاد روحية ومعنوية عميقة وطاهرة.  ذلك أن المرأة المسلمة لا يمكنها أن تكون أسيرة عند الله؛ بمعنى مستوفية لشروط العبودية إلا إذا كانت أسيرة عند زوجها أي طائعة له. قال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لآخر لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها"7.
فإذا كان الأسر الجزئي مستوفي الشروط، أصبح في إمكان الزوجة المسلمة أن تحظى بالوقوع في الأسر الكلي أي الأسر الإلهي؛ وهو أغلى ما يتمناه العبد المؤمن، إن آدم عليه السلام سبق حواء إلى الوجود، ولما نفخت فيه الروح كانت عظمة الله أول شيء أخذ بمجامع لبه، ولم تكن وقتئذ حواء بجانبه.  فتعلق آدم بها أتى بعد تعلقه بالله، أما بالنسبة لحواء والتي خرجت من ضلع آدم – كما في الحديث الشريف – فإنها لما فتحت عينيها وجدت آدم بجانبها فتعلقت به. وتعلقها به من قبيل تعلق الفرع بالأصل وحنينه إليه، فمن خلال هذه المعاني أيضا ينبغي للزوجة المسلمة أن تدرك معنى الأسر الجزئي وأنه لا غنى لها عن زوج مسلم تطيعه فيوقفها على باب الأسر الكلي.
"  أنت ظاهر وباطن، وصورتك منقوش فيها ما شاء من آيات الظهور، وسرك ينطوي على ما شاء من آيات البطون. وإليك في كل لحظة نداء، ومنك الإعراض أو الإصغاء. ولك من آدميتك نداء مصحوب بحيرة أصلية لا تسكن بغير حواء؛ (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها ). فبها كمال دينك، وبها تستعين على عبادته، ونظرة إليها قد تسكن الروع وتقرب من المحبوب، فعليك بالمرأة الصالحة، فهي مرآتك، وهي الركيزة، وردها إلى ضلعك ولا تكسره".[1][1]
عبد الله الشارف، "النور" تطوان المغرب، ربيع الأول 1411.


هوامش:

[i][1]د. عبد الله اشارف "واردات وخواطر إيمانية"، طوب بريس، الرباط ، 1422/2002، ص,45

1- رواه
2 - ابن قيم الجوزية، زاد المعاد ج 4 ص 268-269.
3- حديث صحيح
4– محمد قطب: الإنسان بين المادية والإسلام ص 249.
6– حديث صحيح
7– صحيح مسلم.














إرسال تعليق

0 تعليقات