النفس حجاب

أقرب ما يكون العبد من ربه تعالى قرب عناية وتفضل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". فجدير بالعبد ألا تغيب الذكرى عن عقله برهة من الزمن وإن قلت،


وألا يفتر قلبه عن الذكر لحظة وإن كان مشغولا بدنياه، وفي ذكر النفس نسيان الله؛"ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" .
ثم إن العبد إن نظر إلى ما سوى الله فإنه لن ينظر إلا إلى نفسه، وبذلك تكون نفسه حجابا عن الله فلن يراه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان :" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". والله لم يخلقنا إلا لنعبده، والعبادة لا تشمل شيئا دون آخر، كما أن العبودية  ملازمة للمخلوق لزوم الصفاء للماء وإن سكن الكبرياء قلبه.
وتقتضي العبادة توجيه الوجه لفاطر السماوات والأرض سرا وعلانية. ومهما تنوعت طبيعة العمل، فإن الوجه يظل في وجهته التي خلق لها؛ إذ كل شيء هالك إلا وجهه. ولما كان أكثر الخلق جاهلين بقلوبهم  بسبب تمكن الغفلة منهم، حيل بينهم وبين أنفسهم، لأن الله يحول بين المرء وقلبه، وحجبوا بذلك عن التدبر في ملكوت الله والنظر في آياته.
والنفوس ثلاثة: نفس أمارة، ونفس لوامة، ونفس مطمئنة. فالأولى مذمومة لأنها تأمر صاحبها بالسوء، وتورده الموارد القبيحة، وتسعى في هلاكه، وهي عين الحجاب؛ "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي". والثانية نفس مؤمنة لا تفتأ من توجيه اللوم لصاحبها عند تقصيره في عبادته بإعراضه عن الطاعات وإتيانه الموبقات؛ "لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة". أما الثالثة فهي النفس المطمئنة التي ظفرت بالأنس بالله، فطاب مقامها، وهي التي استراحت بعد طول العناء، وحفظت عهدها وميثاقها، ورجعت إلى رضوان ربها، فنعم الزاد زادها، ونعم السفر سفرها؛ "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي على ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".
والنفس الأمارة حجبت عن الله بانغماسها في الدنيا، ونسيانها أن هذه الدار مزرعة للآخرة، فصاحب هذه النفس "أخلد إلى الأرض واتبع هواه"، وآثر ما يفنى على ما يبقى، واطمأن إلى ذلك دون أن يعتبر بمن خذلته الدنيا بعد أن جرعته سمومها، وليت شعري كيف يقبل العبد على شهوات الدنيا، وينهمك في بناء الدور والقصور مع أن الدنيا قنطرة للعبور. ؟
إن الإفراط في المطعم والملبس والمسكن، يجعل من هذه الأشياء الثلاثة غاية في ذاتها بدل أن تكون وسيلة للقيام بعبادة الله، ويجعل الاهتمام منصبا على البدن دون النفس، مما يؤدي إلى ضعفها لأنها أصبحت أسيرة في سجن بدنها ومقيدة بنار شهواتها. إن تلك الأشياء خلقت لكي تحفظ البدن، الذي هو مركب للنفس، من الهلاك. فالاقتصار منها على الضروري أسلم للعبد وأصلح للعبادة والتقوى. والخروج بها عن دائرة الضرورة يجر إلى الهلاك،  بسبب ما تحدثه من كثرة الاشتغال والاهتمام، فينقلب ذلك إلى هموم تتلوها هموم، وينتقل العبد من رحمة الله إلى أودية العذاب.
جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جعل الهم هما واحدا كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك". قال أحد الحكماء: "من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها يعني الحرص حتى يصير رمادا. ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع به. ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد فصار جوهرا لا حد لقيمته".
ومن ثم فإن في الدنيا موطنين لا ثالث لهما: موطن العبادة وثمرته التذكر؛ "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور "، وموطن الشهوات وثمرته الغفلة؛  "والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت". ومن ارتحل عن أحدهما حل في الآخر. والذي اطمأن إلى الدنيا وأسرته خالها ساكنة مستقرة وهي تجري؛ مثلها كالظل متحرك في سكون "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب".قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون".
ومن خصائص النفس المحجوبة انشغالها بالجزاء واستشرافها لمعرفة قبول عمل من فرض أو سنة أو غيرهما من الطاعات وأعمال البر.والأولى أن لا تكثرت بذلك، إذ أن لكل عمل جزاء، كما أن لكل حركة نتائج. فلا تشتغل برؤية العمل عن رؤية المعبود، فيحبط ذلك العمل ويصبح كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ولطالما حجب كثير من الخلق عن معبودهم بشدة اهتمامهم بعملهم وتزكيتهم له فانسلخوا من العبودية ووقعوا في الشرك الخفي من حيث لا يشعرون . والله يقول  في حديث قدسي "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته".
والنفس يزداد حجابها كثافة بالرياء،  والله لا يقبل عمل المرائي لأنه آثر الخلق على معبوده وتعلق بهم وأعرض عنه، ودفعه إلى ذلك اعتقاده أن الإنس يملك النفع والضر، فأظهر الاستقامة والصلاح استمالة للقلوب، وعدل بوجهه عن الله حينما لا يكون بين الناس، وإن صلى ساعتئذ  صلى متقاعسا. فما أجهله وما أتعسه "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون". وحينما أرضى الخلق بريائه جلب سخط الله عليه واستحق منه المقت والطرد، فطبع على قلبه وهو يحسب أنه يحسن صنعا فأصبح مطية لهوى نفسه وقاده هواه إلى النار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك".
ولما كانت أكثر النفوس ميالة إلى حب الظهور، وتعشق الثناء والمدح، كان الرياء ملازما لها لزوما قد تشعر به وقد لاتشعر، لذا يجدر بالعبد أن يتحلى باليقظة فإن عدوه الذي بين جنبيه لن يفتأ عن الكيد، وكلما ازدادت الغفلة تمكنا ازداد الشيطان تجبرا.
فلتكن التقوى زادك، ولتكن المراقبة عضدك، واحرص على استحضار الخشية في قلبك، وانبذ ما علق به من أدران، وايأس مما في أيدي الخلق يقربك الخالق، وإذا قربك فقد اجتباك وما ذلك على الله بعزيز. ومهما هان عليك شأن الخلق، نجوت من الغرق وركبت السفينة، وتبدد شبح الرياء. وإذا سلكت سبيل المجاهدة أعطيت دليل الهداية ومن قرع الباب فتح له.
والإنسان خلق للعبادة، فإن خرج عنها بعبادة الدنيا، خرج عن أصله وأصبح غريبا عنه وذلك عين التيه. احذر أن تكون غريبا عن أصلك وفطرتك، واحرص على أن تكون غريبا في الدنيا تفز بسعادة الدارين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريبا في الدنيا ويعود غريبا فطوبى للغرباء".
ثم إن لذة البصر تكمن في النظر إلى المخلوقات وعجائب الدنيا، فإن أثمر تدبرا سهلت معرفة الخالق ورق الحجاب، وإلا كان المبصر من الذين لهم أعين لا يبصرون بها، لأنه وقف مع المخلوقات فحالت بينه وبين الخالق فعمي. لا تنظر إلى الدنيا بعين البصر، خشية أن تسحرك وانظر إليها بعين البصيرة لعلك ترى عجبا، وإن لم تفعل فلا عذر لك "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره".
احذر شروق النفس تؤمن يوم الحسرة "أن تقول نفس يا حسرتي على ما  فرطت في جنب الله". واطلب غروبها تفز بالعبرة، ففي شروقها غروب الأنوار، وفي غروبها شروق الأسرار، واحملها على كتاب الله فرب كتاب سواه باطنه حجاب، واغضب عليها غضب موسى على قومه لما عكفوا على عبادة العجل، وتأس به في قوله "عجلت إليك ربي لترضى"، وإلا تكن النفس عجلا فتحجب عن الله كما حجب قوم موسى بعجلهم عنه".
باريس 1983-1984

إرسال تعليق

0 تعليقات