خواطر إيمانية

مدخل

لا تخلو كتب الفكر والأدب قديما وحديثا من ألوان الواردات والخواطر، وكلما كان الفكر والأدب ينهلان من جوهر الدين ويرتكزان على القرآن والسنة الصحيحة كان فضاؤهما مجالا لورود الواردات والخواطر الإيمانية والعكس صحيح؛ أي إذا كان الفكر والأدب لا يسترشدان بالكتاب والسنة ولا يلتزمان بقواعدهما ومبادئهما ولا يحتكمان إلى نصوصهما، تسربت إليهما الأفكار والمعاني ذات الصلة بالخواطر والواردات الشيطانية. ومثال النوع الأول؛ مؤلفات الفقه وأصوله، ورسائل العقيدة الصحيحة، وكتب الآداب وتربية النفس والأخلاق الدينية، وأشعار الجهاد والحكم والمواعظ. ومثال النوع الثاني؛ مؤلفات الفلسفة الميتافيزيقية وعلم الكلام والتصوف الفلسفي (وحدة الوجود، الحلول والاتحاد) والطرقي، والدواوين الشعرية المشتملة على بعض أنواع الهجاء أو الأمداح الكاذبة أو الغزليات. فهذا الصنف الثاني من الفكر والأدب قلما يسلم أصحابه من الإيحاءات الشيطانية التي تكون من وراء الخواطر والواردات الضالة والمضلة.
وإذا علمنا بأن نظريات متفلسفة المسلمين وأقطاب الكلام والتصوف الفلسفي لها علاقة وطيدة بالفكر اليوناني الوثني وبالفكر الإشراقي والمسيحي، وبالمذاهب الفلسفية والعقائد المختلفة التي كانت منتشرة في ربوع الشام وفارس والهند قبيل مجئ  الإسلام، تبين لنا خلو هذا الفكر من الخواطر والواردات الإيمانية، وإن وجدت فهي قليلة. والخلاصة أن نوعية الخواطر والواردات مرتبطة بطبيعة المحل القابل لتنزلها وورودها، وكل إناء يرشح بما فيه. ولقد أحسن محمد ابن قيم الجوزية عندما قال:"مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها."[1][1]
وهناك خواطر وواردات نفسية وتربوية وإيمانية مثل ما ورد في رسالة "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لأبي محمد علي بن حزم أو في كتاب "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" للراغب الأصفهاني، أو ما سطره عبد الرحمن ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر"، أو ما جادت به قريحة شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "التحفة العراقية في الأعمال القلبية"[2][2]وغيرها من رسائله، أو ما ورد في كتابي "الفوائد" و"بدائع الفوائد" لمحمد ابن قيم الجوزية إلى غير ذلك من الكتب والرسائل.
وهناك خواطر وواردات صوفية وهي الأفكار والهواجس التي تلازم قلب (المريد) أو (السالك) خلال تجربته الصوفية. وهي نوعان: خواطر ملائكية وخواطر شيطانية. ويستندون في هذا التقسيم إلى الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود مرفوعا: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء)"[3][3].
ولقد أفرد الصوفية لموضوع الخواطر والواردات جزءا هاما من كتاباتهم، بل تجد لبعضهم مؤلفات ورسائل لاتعدو أن تكون مجرد خواطر شخصية مكتوبة بلغة الذوق وأسلوب الإشارة. والكلام الصوفي إما أن يكون وصفا للأحوال الداخلية المتعلقة بالسلوك الذاتي للمتصوف، أو كلاما عن الأذواق والإشراقات والحقائق العرفانية، أو صياغة للأحزاب والأوراد، أو نصوصا تعليمية وتربوية تبين طريق السلوك الصوفي والغاية من التصوف. وهذه الأصناف الأربعة من الكلام الصوفي تندرج في إطار الخواطر الشخصية للمتصوف أو تتعلق بها تعلقا وثيقا.
ويعلل الصوفية اشتباه الخواطر بأربعة أشياء وهي: إما ضعف اليقين، أو قلة العلم بمعرفة صفات النفس وأخلاقها، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى، أو محبة الدنيا والتماس الجاه وطلب الرفعة والمنزلة عند الناس، زاعمين أن العبد الذي عصم من هذه الأشياء الأربعة يستطيع التمييز بين الخواطر والواردات الملائكية والخواطر والواردات الشيطانية، أو بين لمة الملك ولمة الشيطان. غير أن العصمة المطلقة في هذه الأمور الأربعة لا تصح  في حق العباد اللهم إذا استثنينا الرسل والأنبياء.
ثم إن أقطاب الصوفية وأعلامهم الكبار كالحكيم الترمذي ومحي الدين ابن عربي وابن سبعين وغيرهم لم يسلموا في حياتهم من الوقوع في هذه المعضلة وإن ادعوا خلاف ذلك، وكتاباتهم المشحونة بالخواطر والمكاشفات والإلهامات المختلفة خير دليل على هذه الحقيقة. ورغم أنهم أشاروا إلى أن المريد أو السالك أو المتصوف ينبغي له أن يتثبت من مصدر الخاطر ويعرضه على الكتاب والسنة قبل أن يمضيه، فإنهم لم يلتزموا بما اشترطوه على أنفسهم ولم يتقيدوا ببعض القواعد الصوفية التي وضعوها وبينوا فيها أن طريق التصوف مقيد بالتفقه في الدين وأصحابه مسترشدون بأثر سيد المرسلين.
يقول العلامة محمد بن قيم الجوزية رحمه الله: " إن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين فلا يثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي. وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها…..وألقته في الأسر الطويل. وكما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية، فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هي أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة..وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها أثمرت له كل فعل جميل وملأت قلبه من الخيرات واستعملت جوارحه في الطاعات. ولهذا لما تحققت طائفة من السالكين ذلك، عملت على حفظ الخواطر فكان ذلك هو سيرها وجل عملها، وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما ألا يترك به واجبا ولا سنة، الثاني : ألا يجعل مجرد حفظها هو المقصود، بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإيمان والمحبة والخشية فيفرغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضدادها وإلا فمتى عمل على تفريغه منهما كان خاسرا.. ومن هنا غلط أقوام من أرباب السلوك وعملوا على إلقاء الخواطر وإزالتها جملة، فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات فظنوها تحقيقا وفتحا رحمانيا وهم فيها غالطون، وإنما هي خيالات شيطانية والميزان هو الكتاب [4][4]
لكن المتصوفة الأوائل الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث، أمثال بشر الحافي والفضيل بن عياض وأبي القاسم الجنيد والحارث المحاسبي وغيرهم، خلفوا أقوالا ووصايا وحكما تدور حول الزهد والإخلاص وتزكية النفس وأمراض القلوب وعلاجها وأحوال القيامة والآخرة، وهي في غالبها لاتتنافي مع الكتاب والسنة، لأن التصوف في هذه المرحلة لم يكن بعد قد تسربت إليه عناصر الفلسفة اليونانية، أو بعض المبادئ من عقائد المسيحيين والفرس والهنود وفلسفاتهم.كما أن ظاهرة الطرقية والزوايا ونظام المشيخة وما إلى ذلك مما يتعلق بالمذهبية الصوفية، كل هذا لم يكن معروفا في تلك المرحلة. وهكذا فإن الخواطر والواردات التي بثها أولئك المتصوفة الأوائل  في أحاديثهم ومواعظهم وكتاباتهم، تتميز بطابع الزهد والورع والخوف وإخلاص العمل لله والاستعداد ليوم الرحيل، ولا أثر فيها لفكر أفلاطوني أو فلسفة زرادشتية. ولعل الحارث المحاسبي هو خير من مثل هذه المرحلة من الفكر الصوفي وذلك من خلال كتبه ورسائله المشهورة، مثل كتاب  "الوصايا" وكتاب "الرعاية لحقوق الله " و"رسالة المسترشدين" ورسالة "التوهم".

وكتاب "المدهش" لأبي الفرج ابن الجوزي زاخر بأفكار وأقوال من جنس الخواطر والواردات الإيمانية وبما له صلة بالزهد والرقائق، وكذا كتاباه "صفة الصفوة" و"صيد الخاطر". ولا تخلو بعض رسائل ابن تيمية وكتبه من أفكار وإشارات مماثلة، وحدا حدوهما تلميذه ابن قيم الجوزية خاصة في كتابيه "مدارج السالكين" و"الفوائد". وهكذا لم يمض قرن من قرون التاريخ الإسلامي إلا وتألقت فيه كتابات متميزة لها علاقة بهذا الفن الأدبي الديني. ولا بأس من الاستشهاد بمقتطفات من بعض الكتب المشار إليها.
يقول أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "المدهش":
"يا معدوما في الأمس، فانيا في الغد، عاجزا في الحال، من أنت حتى تغتر بسلامتك وتنسى حتفك وأملك بين يديك وأجلك خلفك، وكتابك قد حوى تفريطك.. يا قلبا مشتتا قل نظيره، كم هذا الهوى؟ ولكم هوى أسيره؟ ستعرف خبرك يوم عتابي وسؤالي، وستقول عند الحساب مالي ومالي.. لو أثر فيك وعظي ومقالي لكنت لحر الحسرات على حر المقالي"[5][5]
وقال أيضا: " إذا هبت رياح المواعظ أثارت من قلوب المتيقظين غيم الغم على ما سلف، وساقته إلى بلد الطبع المنحرف برعد الوعيد وبرق الخشية، فتترقى دموع الأحزان من بحر قعر القلب إلى أوج الرأس،  فتسيل في ميازيب الشؤون على سطوح الوجنات، فإذا أعشب السر اهتز فرحا بالإنابة"[6][6]
وقال كذلك: "كم أسرعت فيما يؤذي دينك ودأبت؟ كم خرقت ثوب إيمانك وما رأبت؟ كم فرقت شعب قلبك وما شعبت؟ كم فاتك من خير وما اكتأبت؟ يا كاسب الخطايا بئس ما كسبت، جمعت جملة من حسناتك ثم اغتبت.. تعلم أن مولاك يراك وما تأدبت، تؤثر ما يفنى على ما يبقى، ما أصبت، تصبح تائبا فإذا أمسيت كذبت، تمشي مع اليقين فإذا قاربت انقلبت، تعمر ما لا يبقى وما يبقى خربت.."[7][7]
وفي كتابه "صفة الصفوة" قال هذا العالم الجليل: "رد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الخوف، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، والتمس باب الحزن بدوام الفكرة، والتمس وجوه الفكرة في الخلوات، وتحرز من إبليس بمخالفة هواك، وتزين لله بالإخلاص والصدق في الأعمال، وتعرض للعفو بالحياء منه والمراقبة، واستجلب زيادة النعم بالشكر، واستدم النعم بخوف زوالها، ولا عمل كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كرد الغضب، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغار الدنيا.. "[8][8]
وقال محمد بن قيم الجوزية: "من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود. ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله. ومن كان فتحه في الخلوة[9][9]لم يكن مزيده إلا منها. ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم. ومن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه وفي أي شئ استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس. فأشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه. فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه"[10][10]
يتبين مما سبق  ذكره أن فن الخواطر والواردات لم ينفرد به الصوفية كما قد يتوهم البعض وإن كان الصوفية أكثر الناس اشتغالا به. كما أن الخواطر والواردات التي دونها غير الصوفية أمثال العلماء  المذكورين آنفا، تتميز بكونها خالية من الأفكار الشاذة المتعلقة بوحدة الوجود أو الحلول أو الفناء، وما إلى ذلك من الشطحات التي تزخر بها خواطر وواردات الصوفية المتفلسفة أو صوفية الطرق والزوايا.
وعندما نقرأ القرآن الكريم ونتصفح كتب السنة المطهرة نجد كلاما كثيرا عن القلب والإيمان والذوق وأمرا ض النفس ودوائها. و نجد كلاما عن صمم القلب وعماه وعن سلامته وسقمه وعن تقواه وفجوره، وعن النفس البشرية وزكاتها وفجورها وعن الوعد والوعيد وأهوال القيامة وأمثال هذه المعاني. فكان من البديهي أن ينشأ ويتطور هذا الأدب الإيماني الفذ، الذي اتخذ من النفس وتهذيبها والوصول بها إلى أسمى الدرجات محور موضوعه ومنتهى غايته. كما غدا فن الواردات والخواطر الإيمانية جزءا لا يتجزأ منه ومظهرا متميزا من مظاهره.
وإذا كانت هذه الرسالة المتواضعة لا ترقى بطبيعة الحال إلى مستوى كتابات أقطاب هذا الفن، فرجائي من الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها قارئها، وأن يصيب غيثها أرضا ظمأى ممحلة فيذهب عنها الظمأ وتنبت الكلأ بإذن ربها.
تطوان/المغرب، رجب 1422ه- شتمبر‏2001‏





أثر الوارد الإيماني

إذا ورد وارد إيماني قلبك فلا تستغرب لما يحدث في باطنك، لأن الزائر الذي حل بقلبك رسول من عند الكريم، ولا يمكن لهذا الرسول أن يحل بمكان مملوء بما يتعارض مع مهمته. ومن علامات صحة الوارد، أن يكره إليك ما استعذبته نفسك من العوائد، وأن يمنعك من الاشتغال بكثير من أمور الدنيا، ويزيدك تعلقا بمحبوبك ويشغلك به عن غيره.

لا طمأنينة إلا مع الله

إذا داعبت رياح الطمأنينة قلبك وذقت حلاوتها، أكثر من الشكر والحمد، ثم احذر الله والزم المراقبة، لأن مكر الله شديد والسلب بعد المنح ليس ببعيد. ولا تعتبر الطمأنينة غاية في ذاتها، ولا تقف معها، لأن وقوفك معها وقوف مع نفسك. ولا تكن أسير حلاوتها فتتعلق بها فتحجب عن الله لأن إلى ربك المنتهى.

نطق لسان الحال بأمر يشير بأن لا سكون مع ما سوى الله، وأن العناية أدركت المؤمن وحالت بينه وبين الركون للسوى. وكلما مسه طائف من الشيطان ووقع في شهود النفس، تعكر صفو حاله واعتراه نوع من القلق، وشق عليه معاملة الأغيار. ثم لم يلبث أن سكن ورد إلى الطمأنينة؛ لأن العناية شوشت عليه ذلك الركون، فلم تطمئن نفسه لغير الله الذي هو آخذ بناصيتها، كما أن حنين الروح إلى وطنها الأول فاق كل حنين، ولا قرار لها مع غير خالقها.

لا تألف غيره لأنك مفارقه، ولا تتعلق بسواه لأنه فاني. وروحك خالدة. واعلم أنك في سفر منه إليه، وقد أودعك الأمانة، فضيعتها في الطريق لتزودك زاد المقيم، ونسيت أنك على سفر، فأمنت سقر، فلفحك لهيبه. فر إليه وتذكر ألفتك الأصلية، واسأل الله أن يردها إليك؛ وفي الحديث ( اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري…وتلهمني بها رشدي وترد بها ألفتي ).

العابدون السائحون غمرهم الحضور وتجردوا مما سواه، وإن باشروا زينة الدنيا فبه. فلا حركة ولا سكون لهم إلا به فهم في الغرفات آمنون، كما أن أهل الجنة في نعيم، وليس يحجبهم ذلك عن التعلق بمحبوبهم ومشاهدة أنواره. اجعل الله أنيسك في الدنيا، وتحقق به لعلك تكون من السابقين. وتجرد به عن غيره لأن كل ما سواه باطل.[11][11]واعلم أن مطالعة أهل الجنة لأنوار الله وعدم انشغالهم بنعيمه عنه، متعلق بعدم انشغالهم عنه بزينة الدنيا، فاكشف غطاءك قبل أن يكشف عنك.

إذا أحببت الله فإنك لن تستطيع أن تشغل بما سواه، وإلا شعرت بالعذاب والحيرة حتى ترد إليه. وإذا لم تشعر بذلك وقد أقبلت على غيره؛ فما صدقت في حبك له وكنت فقط تحت سيطرة الوهم. وحبك لغيره ينتهي بانتهائه ويبقى الذي لا يفنى سبحانه ما أعظمه.

الله أكبر، الله أعظم، الله أجل، أسلم وجهك لله واستمطر رحمته بالصبر والصلاة، واصدق الله في ركوعك وسجودك، واخضع وتذلل، واستحضر عبوديتك؛ تأخذك المناجاة إلى عالم يجل عن الوصف، تتفيأ ظلاله وترنو بعين البصيرة إلى جماله وبهائه. أعظم به من مقام، واسعد بها من لحظات، مع رب ودود مقبل بوجهه الكريم على عبده الخاشع الذليل. واعلم أن حرصك على استحضار الخشوع في صلاتك إرضاء لربك، وطمعا في نعيم القرب وحلاوة المناجاة، لن يضاهي حرصه في الإقبال عليك والاستماع إلى دعواتك، ولئن جئته تمشي أتاك هرولة.

العهد والميثاق

إن الأرواح لما خوطبت في ميثاق الذر (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)، وشهدت بأن الله ربها، لم تكن تعرف بعد سجن الأشباح ولا مشاق الأمانة (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ). ولما هبطت وسجنت ووقعت في فخ النفس، نسيت ثقل الأمانة فهلكت. ولو أنها حافظت على عهدها وميثاقها، وظلت تعاين ببصيرتها ذاته، ولم تغفل عن ذلك طرفة عين لهان عليها ذلك.

أنت على الفطرة ما دمت على العهد، وإذا خنت الأمانة أوكلك الحق إلى نفسك. وهو يحول بين المرء وقلبه. فنورك من نور الفطرة، والله يهدي لنوره من يشاء. وسلامة دينك معلقة بسلامة فطرتك، وصفاء هاته مرهون باتباعك للشريعة. فلا ترغب بنفسك عن نهج نبيك، وليكن هواك تبعا لما جاء به، ولا تتخلف عنه فيفوتك الركب ويقتلك الظمأ في فلاة.

الجلال والجمال

إذا تجلت لك آية من آيات الحق في مظهر جمالي ولم ينكشف لك جلالها، فما رأيت جمالها وما استفدت من تلك الرؤية؛ إذ الجمال والجلال وجهان لحقيقة واحدة. فلا رجاء دون خوف، ولا خوف دون رجاء (وادعوه خوفا وطمعا). وجماله يذكرك بجلاله، وجلاله يذكرك بجماله. ومن ثم فإنه ما تعرف إليك بجمال إلا وهو طالب منك أن تخافه (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) وما تعرف إليك بجلال إلا وهو طالب منك أن ترجوه.

لا تقف مع الحسنة فتحجب عنه، ولا تيأس عند صدور السيئة فتسيء الظن به، ولا تكن حيث الخوف الدائم والهيمان والدهشة، وكن حيث شهود الجلال والجمال. حينئذ تفيض الحسنات عن ذاتك، ويسهل اجتناب السيئات لالتهاب نار الخشية في قلبك (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ).

هما جلالان

هما جلالان: ظاهري وباطني. والأول قد يدركه عقلك بواسطة حواسك، والثاني لا تراه إلا ببصيرتك إن أثمر الإدراك الأول. ويحدث الجلال الظاهري في القلب خشية قد تثبت وقد لا تثبت مع بقاء رسمك. ويحدث الثاني خشية ودهشة لا تنمحيان إلا أن يشاء الله مع ذهاب رسمك. وفي الأصل ما ثم إلا جلال واحد والتقسيم اقتضته طبيعتك.

خوفان لا يجتمعان

خوفك منه يقهر خوفك مما سواه، ووجودك تحت سلطانه يجعل وجود ما سواه تحت سلطانك. والخوفان لا يجتمعان، والأول جوهري أصلي لتعلقه بالافتقار عين العبودية. والثاني عرضي طارئ. ويورث الأول الأمن والطمأنينة والنور. ويورث الثاني القلق والاضطراب والظلمة (فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين ). ولو كنت مستحضرا ما كتب في اللوح المحفوظ ما خفت سواه فما أجهلك بربك.

إذا تمكن الخوف من قلبك ملكت التمييز، وتحركت الجوارح بالأمر، وسكنت بالنهي، وانمحى الاعتراض لضعف قوة النفس، وتلاشى الفرح إلا برحمة الله، والحزن إلا للتقصير في العبادة. ووقعت الإجابة بالطلب أو دونه، لحصول الانسجام بين ذاتك والكون، ولصدق اضطرارك (أمن يجيب المضطر إذا دعاه). والاضطرار إليه عين الخوف منه، وحبلك الموصل إليه.

القرآن يخاطبك

إن القرآن خطاب رباني موجه إليك، فافتح قلبك له، واخشع في تلاوته لعل الله يلهمك بعض أسراره. وإذا لم يحدث في باطنك خشوعا أو طمأنينة، فما وقع الخطاب على قلبك وما وعت أذنك (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ). فاحرص على أن تجعل رؤيتك بعين البصيرة للمشاهد الغيبية من جنة وملكوت، كرؤيتك بعين اليقين للمشاهد الدنيوية لعل ذلك ينفعك في التقرب إلى الله


مراعاة الوقت

لن تتجلى لك حقيقة ذاتك ما لم تراع وقتك، فلا تخضع لزمان لكونه فانيا، ولكون روحك لن تتغير وليست فانية. وكنزك هو الحال الذي أنت فيه، وأمسك لن يعود، وغدك ليس بحاصل، وحياتك هذه حلم، والتي بعد الموت هي الحياة (يا ليتني قدمت لحياتي ). روحك فهمت الخطاب خارج حجاب الزمن، واستعصى عليها استحضاره تحت وطأته. احفظ وقتك وتحقق بالله فيه، تسطع عليك شموس المعرفة، وتحقق مراد الله من خلقك، وتفز بفرصة العمر قبل فواتها. فهو الموصل إن تحققت به، والحجاب إن غفلت عنه، وساعتك التي أنت فيها.

لا تكن مطية وقتك، بل اجعله مطيتك، وأحكم قبضتك على لحظاتك، فقد تهلك بين فتحة عين وغمضتها. والكل في قبضته فاحذره لأ نه القهار، وأطلق بصرك فيما حولك وبصيرتك في باطنك، دون أن تشغل بسواه فتحجب عما يمكن أن تلهمه، فإن  صابرت وراقبت وأحاطت بك العناية وتم لك ذلك؛ رميت سلاحك وكسرت شراع سفينتك.


لا تطرد يومك  بغدك، ولا تجعل نفسك تعانق ما ليس بحاصل، أو ما لم يحن بعد وقت حصوله. وإذا لم تفعل ذلك، كنت غائبا وضيعت إمدادات وقتك، وأسأت الأدب، لأن الله لم يخلق شيئا عبثا. وآياته لم تزل تتجلى لك. ورب حضور منك يثمر علما يورثك القرب، ورب غيبة منك تثمر جهلا يورثك البعد. وإذا أنعم عليك بالقرب لم تعد تشغل بما سيأتي؛ لأن الذي يملك الكنز لا يعبأ بالفلس. كما أن القرب منه ينفي كل الأبعاد، فلا أثر لماضي ولا لمستقبل. ومن تعلق بجمال الله وأسر بنوره حضر ولن يغيب.
احذر ريح الشرك

لا تجعل قلبك يسكن إلى علم وإن سما، أو عبادة وإن جلت، ولا تنسب ذلك إلى نفسك فتعصف بك ريح الشرك. وانسب إليه ما وصل منه إليك تكن شاكرا، وإن لم تفعل استهوت نفسك ذلك، وتعلقت به وذلك عين المكر؛ لأن المرء لايبعث إلا على ما مات عليه. والزم الخشية قلبك؛ لأن الله قد جعل التخويف أمنة من الأخذ بالمفاجأة وسببا للرحمة (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون). والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الذكر إرادتك

لم يجر الذكر على لسانك إلا وهو يريدك لحضرته. وإذا أرادك لذلك كنت في حفظه، وكان الذكر حرما آمنا لك. وأمست نار نفسك خامدة، وملكك مالك الملك زمامها. ألا ترى أنها تستسهل الأمر الصعب إذا حل بها حالة الذكر، في حين تستثقل أمرا هينا ولا تطيقه في حالة الغفلة. اصرف همك إليه واذكره مع أنفاسك، لأنه لا يغفل عنك طرفة عين. وإذا حصل لك الأنس به وألفيت حلاوة الذكر، دل ذلك على الرضا؛ فقد جاء في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني".

يا ابن آدم ألم يأت عليك حين من الدهر لم تكن شيئا مذكورا، ثم غدوت مذكورا. أو ليس من الشكر والإحسان أن تذكر من صيرك مذكورا، وباهى بك الملائكة وأسجدهم لك. لقد أنساك الشيطان ذكر ربك حسدا لما علم ذكر الخالق لك. فهو يطوف بك ويغويك وأنت لاتتذكر ولا تبصر. حذار أن يصدق عليك قول الله ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) وحري بك إن أنت ظلمت نفسك أن تذكره وتستغفره، فيكشف عنك ما ظلمت به نفسك. واعلم أن ذكرك له شرط ذكره لك (فاذكروني أذكركم)، وحبلك الموصل إليه، وأنك بالذكر موجود وبعدمه معدوم، وإنك بالبيان صرت إنسانا (خلق الإنسان علمه البيان). وحياة قلبك بالذكرى (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) وتجنب من أعينهم في غطاء عن ذكره كي لا تعمى بصيرتك. واعلم أن أجل أوصافك وصف العبودية. فأنت عبد الله بالذكر، وعبد الهوى بالغفلة، والسجين المعذب بالإعراض (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا). فعليك بذكر التسبيح والتهليل، وذكر الدعاء والثناء، وذكر التفكر والتدبر والتفقه، وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم عليك بالحسنات لأنهن (يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ).

لا تكن عبد الحظوظ
تدارك أمرك إذا فاتك حظ وبدا أساك، فإن قدمك ليست ثابتة. والحق يثبت وهو الحظ؛ فاقرع بابه. كل الحظوظ مسطرة في اللوح المحفوظ. وانتقالك بينها عين القدرة. ويمحو الله ما يشاء ويثبت. خذ كتابك بيمينك واثبت على الصراط المستقيم، وصابر وراقب وحاسب، واجمع آمالك فيه؛ ملكت الحظوظ أو فاتتك. ثم انظر واختبر؛ فإن حزنت نفسك لفوات حظ، أو انبسطت لحصول غيره حتى أساءت الأدب، فما صحت طمأنينتها. وإن استوى عندها الحصول والفوات، فقد تحقق لها المراد.

الحق ناظر إلى قلب
الحق ناظر إلى قلبك ويقلبه، ويرفعك به ويخفضك، ولك ما نويت. رب عمل خلته جليلا وقد أبعدك، ورب عمل حجب   عن نفسك فلم تعره أي بال وقد قربك. ما طلب قط صورتك وما نظر إليها، إذ هي فانية. بالصورة أنت مع نفسك، وإن تحققت بقلبك كان معك. واختر ما يبقى على ما يفنى، ورد الفرع إلى أصله، والأمانة إلى أهلها (ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).

صدرك لا يسع قلبين

يا عابر القنطرة، أنت مستخلف في الدنيا وجعلتها همك، وتشكو عذابها ولا كاشف لما ألمك. أما تدري أن صدرك لا يسع قلبين، ولينوء بحمل همين، وأن الهموم إذا تشعبت أوهنت، وإذا توحدت فيما خلقت له، أسعدت وأشرقت من كل زوج بهيج، فيا حبذا ذاك الأريج؛ أبشر بها من ريح طيبة تخالج صدرك، وتوقظ عزمك، وتطرد همك، وتستبدله بهم الآخرة (وللآخرة خير لك من الأولى). واعلم أن هموم الدنيا لا تزول إلا بالعمل للآخرة، وأنك إن بعت دنياك بآخرتك ربحتهما جميعا. فاضرب هموم الدنيا بهم الآخرة، تسعد في الدارين، وتأمن سخط الله يوم يبعث الثقلين


فلك السجود

الكون محيط بك ومسخر لك، لكونك خليفة ووارثا. آيات الكون تحيلك على المكون كالعبد يطلب سيده. وقضت الربوببة بالعبودية، وسجد النجم والشجر (وكل في فلك يسبحون). وفلك السجود فلك كل موجود لا وجود له بذاته، فإن أبيت السجود أصبحت لا فلك لك وتهت، لكونك حدت عن أصلك. وإن لم تنقض الميثاق دمت سابحا في فلكك، ولا تخش بعد ذلك شيئا؛ فهو ممسك بك لأنه (يمسك السماوات والأرض أن تزولا).


إليك في كل لحظة نداء

أنت ظاهر وباطن، وصورتك منقوش فيها ما شاء من آيات الظهور. وسرك ينطوي على ما شاء من آيات البطون. وإليك في كل لحظة نداء، ومنك الإعراض أو الإصغاء. ولك من آدميتك نداء مصحوب بحيرة أصلية لا تسكن بغير حواء (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها ). فبها كمال دينك، وبها تستعين على عبادته، ونظرة إليها قد تسكن الروع وتقرب من المحبوب. فعليك بالمرأة الصالحة؛ فهي مرآتك وهي الركيزة، وردها إلى ضلعك ولا تكسره.




أولياء الله

إن لله عبادا أولياء وصالحين، أودعهم أسرارا، واصطنعهم لنفسه، وأيدهم بروح منه، يسيحون ويجولون؛ يحملون نور الهداية كالرياح اللواقح. إن كنت على نور من ربك، اقتبست من نورهم. وإلا فقد ضرب بينك وبينهم بسور، وحجبوا عنك. ويكون سور نفسك أشد من سد ذي القرنين، لا يندك إلا بوعد ربه، ولن تراه إلا كشفا فيشملك النور، أو عند كشف الغطاء فتفترسك الحسرة.


العقل المقيد

زمانك فصلك عن حقيقتك، وأخضع عقلك لمحسوساتك، فشق عليك أن تعقل ما لا تلمسه. وإن عقلته فلا أثر. فإن رمت الحق، وجب كسر قيد العقل المقيد؛ لأن الأول (وسع كرسيه السماوات والأرض) لا محدود. والثاني قيدته التجربة والنفس الأمارة. ولن تسطع عليك أنوار الحق، ما لم تتبرأ من القيد وتكسره، إذ نوره لا يرى إلا بنوره (أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ). وإيمانك به هو الذي زينه في قلبك. فلا تعبده بنفسك، إذ عبادتك له رحمة منه، وقد تعرف إليك قبل أن تعرفه، وبه عرفته سبحانه ما أجوده.
نظرة الروح ونظرة النفس

روحك ثابتة وخالدة لكونها من النفخة، وساعة نفسك متغيرة، والمتعلقة بروحك ثابتة. إن نظرت بنفسك شاهدت التغير وأسرت، وإن نظرت بروحك أبصرت الثبات وأعرضت عن انعكاسات اللحظة وظلها. والمتغير ظل الثابت. والأول فاني والثاني أبدي. وحياتك الدنيوية ظل لتغيرها وعجلتها. ومد الظل وقبضه أسرع من ساعة، وأمر ربك في وجوده كلمح بالبصر.


أشرف أحوالك حال العبودية

تعلق بالعزيز لذلتك تشرق عليك أنوار المؤمن، فإن ذا الكبرياء صلى وأثنى عليك لذلتك. وكبرياؤه لا تنازعه فيه، وقد اقتضى عبوديتك. وأسرى سبحانه بحبيبه وأسماه عبدا. فأشرف أحوالك حال العبودية. إذ عزتك في تذللك؛ والأشياء في أضدادها. وأحسن أوقاتك وقت تجلي فاقتك بعد كمونها، واستحضارك لجلاله بعد غفلتك عنه بسوء معاملتك لآيات جماله. ومن ثم فإياك أن تشهد جماله بغير جلاله، وجلاله بغير جماله، أو أن تجعل له شريكا وهو لا يغفر أن يشرك به.


لن تدرك ذاته ولو تجردت مما سواه. وذاتك وجدت بعد أن لم تكن؛ فهي مفتقرة. وذاته كانت ولم تزل، وأنى لذات مفتقرة أن تدرك من لا يحده الزمان والمكان، بل خلقهما فتعلق بصفاته، وتخلق بها تشرق عليك أنواره. واعلم أنك لن تعبده ما لم ترتكز على أمر معنوي كالصلاة والذكر، أو محسوس كالبر بالوالدين والإحسان إلى الخلق. فابتغ إليه الوسيلة، ولا وسيلة لك إلا التقوى؛ والتقوى أن يجدك حيث أمرك، ويفقدك حيث نهاك.


أنت الكتاب

أنت الكتاب، والقارئ والمقروء، والشاهد والمشهود، وحامل الأمانة، والمكلف بالخلافة. وكلك آذان وألسنة، وبك تخبر عنك، وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. ركز أحوالك، واستمع لتسبيح ذاتك، وصحح كتابك قبل أن ينشر، وتنطق جلودك، فيخرس لسانك، ويحد بصرك، ولات حين مناص.


الطلب طلبان

الطلب طلبان؛ طلب بالاستعداد وطلب بالنفس. والأول في حضور والثاني في غياب. وحضوك في الأول؛ يتجلى في كونك تتأدب ولا تطلب منه إلا ما يمليه عليك استعدادك، وقد هيأت باطنك لقبول ما يورده عليك. ثم إن الإجابة قد تحصل دون التلفظ بالسؤال؛ لكون حصولها وقع بالاستعداد، ولو بغير شعور منك؛ إذ من أصعب الأمور تحقق المؤمن باستعداده في كل وقت. وغيابك في الثاني؛ هو وقوعك في أسر النفس الأمارة، وطلبك منه ما لا يرضاه لك، أو ما لست أهلا له، وليس من استعدادك، أو استعجالك الجواب (خلق الإنسان من عجل) ولما يحن استعدادك لقبوله، إذ أنك لا تنال إلا ما ينطق به استعدادك.


القصد المطلوب

صحح قصدك ولا تغفل عنه وأنت في شأن من شؤونك. واجمع مقاصدك في القصد المطلوب، فلا قصد لك إلا هو، ولا باب أنت داخل منه إلا بابه. واجعله أمام عينيك؛ فتتوحد لك المقاصد. إذ شعورك بنظره إليك وإحساسك بالخوف والحياء، إحساسا تلمسه في جوارحك، يجعل مقاصدك تفنى في القصد المطلوب، فتنال المرغوب. وبالخوف تموت حظوظ النفس؛ فينقشع الغمام، ويخلو لك السبيل ويصبح الحبيب جليسك؛ "أنا جليس من ذكرني".


الخاطر خاطران

الخاطر خاطران؛ شيطاني وملائكي. والأول وهمي مجاله النفس الأمارة (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ). والثاني حقيقي؛ مجاله النفس المطمئنة.  وإذا كنت في قبضة الأول أنهكك الاختيار، وتلاعبت بك الخواطر، وإن كنت في حضرة الثاني، نطقت عن استعدادك، وتحققت بوقتك، وانطفأت نار الاختيار، وأصبت ببرد التسليم، ويكون الحق سبحانه سمعك وبصرك. وفي الحديث القدسي (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجلاه التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت في شيء أنا فاعله، ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، ولا بد له منه وأنا أكره مساءته).


إذا صح إيمانك بالحق سبحانه، رأيت الحق والعدل في كل شيء، وانتفى الباطل من باطنك ومن الوجود. وآخر باب أنت مطالب بسده باب الخواطر الباطلة. وإذا لم تفعل كنت في خطر، والتبس عليك الأمر، وفاتتك لذة القرب وأنت لا تشعر. واعلم أن المجاهدة خير لك من الانسياق مع الخواطر الباطلة، وأن القناعة من الله حرمان.
الكون يسبح ويسبح

كل ما وقع عليه بصرك في الكون وما لم يقع عليه، يسبح ويسبح في فلك محيطه قبضة جلالية. وإذا تجلت لك أنوار الجلال، وكنت في موطنه؛ قوي يقينك، فسمعت ذلك التسبيح. وحد بصرك بنور بصيرتك، وأحالتك آيات الكون على المكون؛ فشغلت بمحبوبك عما سواه، وطوي زمانك، وقصرت المسافات، وغدا الآجل عاجلا والعسير سهلا.


اجعل الصدق مقامك لا مقالك

إذا طرقت بابه وقيل لك ارجع؛ فما صحت نيتك وما طهرت سريرتك، ولو صدقت الله لخرقت حجب نفسك، ولفتح لك الباب. فاغسل قلبك بماء الصدق، واحيه برحيق الإخلاص. فرب صدق لحظة خير من عبادة سنة. واجعل الصدق مقامك لامقالك، لأن الله ينظر إلى قلبك فلا تشغل عنه بالدنيا وتدعي محبته، وإلا فما استحييت منه، وما صدقت في افتقارك إليه، وقد طبع على قلبك وأنت لا تشعر[12][12]

العلم علمان

شرف العلم على قدر معلومه. والعلم علمان علم تطلبه وعلم يطلبك. والأول كسبي لا يخلو السعي وراءه من عناء، ولا تخلو طريقه من العثرات، وقد لا يشفي الغليل. والثاني وهبي؛ (واتقوا الله ويعلمكم الله ) وطريقه مجاهدة النفس، ومحاسبتها. وثمرته الطمأنينة؛ لأنك قصدت معلومك وهو الله، بما يحب أن  يقصد به ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).


دم على مخالفة شهواتك

إذا اشتهيت الكلام فاصمت، وإذا اشتهيت الصمت فتكلم. ودم على مخالفة شهواتك، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه. وإذا استوى عندك الفعل والترك فاختر الثاني؛ لأنه أسلم، ومبطل للدعوى، ومقو لخصلة الحياء. ولن تستحيي ما لم تتبرأ؛ فما ثم إلا مدبر واحد، فافتح قلبك له، يكن تدبيرك به، وإلا هلكت.


نجاتك في صلاح مركبك

جسدك مركب لروحك، إن سلم من الخرق نجا من الغرق، وعانقت روحك الساحل الأبدي، وإلا كسرته أمواج الغواية وقذفت بأشلائ.ه وصلاح مركبك معلق بسلامة حواسك، إذ بها يحصل العروج، وعليها يتوقف السفر. ولن تعبد الله ولن تشاهد آياته ما لم تستقم جوارحك، وما لم يخشع قلبك ( تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) وعالم الملكوت لا تدركه إلا بروحك، وروحك حجبت عنه بجسدك. فلزم أن تلين جوارحك حتى تستيقظ بصيرتك ويرق الحجاب.


إذا ركبت البحر وطغت أمواجك، وتراءى لك شبح الهلاك، ثم ردتك العناية إلى البر. لاتظنن أن الماء لم يعد محيطا بك. واعلم ألا بر لك؛ إذ الكل بحر والتقسيم أو جدته غفلتك. والساحل مركبك إذا لم ترفع له شراعا. وإذا رفعته غرق (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)

لا تكن عبد الحال وكن عبد الله

لا تطلب منه الكرامات، ولا تتعلق بالكشف فتحجب عنه وتحرم عين الرضا، فتكون كأحد المقربين أهدى إليه ملك هدية فشغلته عن مراقبة الملك وخدمته، فطرد من الحاشية. ولن يحبك الله ما لم تزهد في الدنيا، وفي الحديث (ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ). واعلم أن طلب الأحوال والمقامات قدح في الإخلاص. فلا تكن عبد الحال لأنه لا يدوم، وإن دام فهو حجاب، وكن عبد الله ترفع عنك الحجب.

من الكون إلى اليقين
إذا أحالك الكون على المكون وخشعت ذاتك، كان استماعك ورؤيتك بالحقيقة، وتحققت باليقين واطمأن قلبك. وإذا وقفت مع الكون قوي ظمأك،  وفقدت الخلافة، وحالت طينتك دون إدراك الحقيقة. واليقين يورث الحياء والخوف، وإلا فأنت تضرب في حديد بارد. ألم تر أن يوسف عليه السلام لما رأى برهان ربه خاف ولم يقدم على ما هم به. ولكل شيء ظاهر وباطن ولن تدرك الباطن إلا بعينك الباطنة. فاجتهد أن تكون على بصيرة من ربك.

لا بد لك من معبود
انظر إلى الممكنات باعتبار ضرورتها، وانظر إلى الواجب بذاته باعتبار كماله. ولا تعامل الضروري بأحسن أو بنفس معاملتك للكمالي، فتجلب غضب الله عليك؛ لأن الكمال لله وحده، فنزهه واجعله نصب عينيك. واعلم أن تقديسك الكمال جزء من فطرتك، وأنت إن لم تكن ترى ذلك في خالقك، رأيته فيما توهمه لك نفسك. واعلم أنه لا بد لك من معبود؛ فليكن الله، وإلا عبدت هواك (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).


لباس التقوى

لباس التقوى جمالك فلا تترك الشيطان يسلبك إياه فتفقد كرامة الاستخلاف، ثم يجردك عن إنسانيتك ويزج بك في حمأة البهيمية، فيتحقق مراده فيك، ويسخر منك هو وقبيله. ولو رأيت الأجل ومروره لنسيت الأمل وغروره. ولو شمرت فكرك فيما خلقت له، لما اشتد حرصك على الدنيا، ولما أتعبت نفسك فيما سيفنى


خسر بيعك وبارت تجارتك واستحالت سرابا، وأقفرت جنتك ولما تنبت شيئا. وما زلت تلهث حتى بلغ منك الجهد مبلغه. وتقطعت أوصالك ونسيت أن "اليوم الرهان وغدا السباق والجنة الغاية"، وأن "من في الدنيا ضيف وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة". فاتخذ تقوى الله تجارة تأتك الأرباح وتحمد البضاعة. وحينئذ تلين الجوارح وتخشع، وتستخشن الجنوب ليونة المضجع، ويسجد القلب ويهجم اليقين، فتندحر جيوش النفس الأمارة، وتغدو الآخرة أقرب إليك من حبل الوريد
سكرة الموت

شمس نفسك أشرقت يداعبها نسيم الأمل الطويل. وشمس الدنيا كسفت وهي على أطراف النخيل. والموت يقين لا شك فيه، غدا عندك شكا لا يقين فيه. لكن سكرته تبيد الغمام، وتحضر ما كنت منه تحيد، وتضع حدا لكل الآمال وتلقي بك بين يدي من يفني ويعيد.


بين زمن روحك وزمن نفسك

إذا تدبرت وعيد الله بصدق ويقين، انبعثت من قلبك نيران الخشية، فأحرق لهيبها حجب الهوى والغفلة، فاتسعت دائرة عقلك، وأضحى زمانك في قبضتك، وصرت حاضرا بعد أن كنت غائبا بنفسك الأمارة عن نفسك اللوامة. وإذا كنت أسيرا في قبضة شهواتك فكرت بنفسك الأمارة، وكنت في ظلمات بعضها فوق بعض لا ترى وعيناك مفتوحتان، وضاق زمن روحك واتسع زمن نفسك. وقد تغيب بنفسك عن روحك فيغمى عليك إلى أن تفيق في قبرك.
أقم قيامتك

الأمر أعظم مما تتصور، والخطب أجل مما قد يخطر على بالك. والفضاء ضاق بما رحب. وعجلة الزمان أوشكت على التوقف، بعد أن أباد الأمم والقرون خالق الحركة والسكون. وليل نهارك قد جن عليك ولما تعاين نجومه. أقم قيامتك قبل قيامها، فهول القيامة أشد ما ينتظر والساعة أدهى وأمر.
فر من عذابه إلى نعيمه

تجنب شجرة الزقوم، والحميم والسموم، وتذكر سكرات الموت، وبلوغ الروح الحلقوم، ولوعة الفراق ووطأته، وظلمة القبر ووحشته، وهول الموقف وشدته، واستحضر نعيم الجنة وجمالها، وانسياب أنهارها وعيونها، وطواف غلمانها وولدانها، وتربع أهلها على سرر متقابلين، وتلذذهم برؤية رب العالمين، عساك تحظى بما يوقظ قلبك، ويشغل همك ويقوي عزمك. ولن تشقى بعدها أبدا، بلى وقد صرت حرا وللرحمان عبدا.

الجنة أقرب من أن ترحل إليها، وحورها فوق فرشها وبأبواب خيامها، أشد انتظارا لك من أم لابنها المفقود الضائع، والمهر طول التذلل والتجافي في جوف الليل (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)، والمحافظة على العهد والميثاق. بعدها يطيب التلاقي، وينعم كل خل بخليله، وتقر أعينهم بعطايا مليكهم، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. ما أقصر عمر الدنيا،  والأمر أسرع مما أنت فيه، ولا فناء للآخرة، وأنت تعض بنواجدك على الفاني. بئس ما عضت نواجدك وثناياك، وبئس وخاب المسعى مسعاك.



مستخلص من كتاب "واردات وخواطر إيمانية" للدكتور عبد الله الشارف.
طوب بريس/ الرباط، 1422-2002.

[13][1] محمد بن قيم الجوزية "الفوائد"  دار الكتب العلمية بيروت 1996 ص  193
[14][2] انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية " ج 10 (علم السلوك)
[15][3] أخرجه الترمدي في جامعه
[16][4] - محمد بن قيم الجوزية : طريق الهجرتين وباب السعادتين  دار الكتاب العربي  بيروت ص222
[17][5] أبو الفرج جمال الدين ابن الجوزي  "المدهش" بيروت 1973 ص323
[18][6] نفس المرجع ص451
[19][7] نفس المرجع ص470
[20][8] أبو الفرج جمال الدين بن الجوزي " صفة الصفوة" دار الكتب العلمية بيروت 1999 ج2 ص195
[21][9] ألفت انتباه القارئ إلى أن الخلوة التي يتحدث عنها محمد ابن قيم الجوزية لا علاقة لها بالخلوة الأربعينية أو غيرها من الخلوات البدعية التي يمارسها كثير من الصوفية حيث يختلون بأنفسهم في بيوت أو كهوف ويكثرون من الذكر البدعي ويخضعون لنظام تعبدي وسلوكي غريب يلزمهم بهجر واعتزال الأهل والأولاد وجميع الناس وعدم حضور صلاة الجماعة !! إلى غير ذلك من البدع والضلالات التي ترجع في أصلها إلى إيحاءات شيطانية.
[22][10] محمد بن قيم الجوزية "الفوائد" دار الكتب العلمية بيروت 1996 ص 50
[23][11] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل ما خلا الله باطل" حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة . وتكملة البيت الشعري قول الشاعر : وكل نعيم لا محالة زائل.

[24][12]"إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركن ولكن ينظر إلى قلوبكم"  (رواه مسلم عن أبي هريرة)


إرسال تعليق

0 تعليقات