كل فعل يصدر عن المكلف يتجاذبه طرفان أساسيان من حيث الحكم عليه إذنا ومنعا. الطرف الأول : الباعث على الفعل أو الدافع إليه، وبحسب هذا الباعث يثاب الإنسان في الآخرة أو يعاقب، ويباح له الفعل فيما بينه وبين ربه أو يمنع. الطرف الثاني : المآل الذي يؤول إليه ذلك الفعل، والنتيجة التي يؤدي إليها من صلاح أو فساد، وبحسبه يكون الفعل مأذونا فيه أو ممنوعا منه، إذ المصلحة مطلوبة شرعا؛ فما يؤدي إليها يكون مطلوبا. والمفسدة ممنوعة شرعا؛ فما يؤدى إليها يكون كذلك. وقد بنى أبو إسحاق الشاطبي-رحمه الله- قاعدة الذرائع على أساس أن النظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعا. فإن كانت النتيجة مصلحة كانت الوسيلة مشروعة، وإن كانت النتيجة مفسدة أو ضررا كانت الذريعة ممنوعة شرعا[1]. وعرف ابن رشد "الذرائع" بقوله : "هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور"[2]. وقال فضيلة الشيخ حسب الله عن "سد الذرائع" : "وهو أصل من أصول الشريعة، حكاه مالك في أكثر أبواب الفقه. وتوسع المالكية في تطبيقه من بعده حتى نسب إليهم، والحق أن غيرهم لا يخالفهم في أصل القاعدة، وإن خالفهم في تطبيقها على بعض الفروع"[3].
واستدل المثبتون لسد الذرائع واعتبارها أصلا في بناء الأحكام عليه بالكتاب العزيز، والسنة المطهرة، والإجماع، والاستقراء، والمعقول. أما الكتاب، فآيات كثيرة : منها: قوله تعالى : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (35) سورة البقرة.
ووجه الدلالة من الآية : ما ذكره ابن جزي في تفسيره حيث قال : "إن النهى عن القرب في قوله (ولا تقربا) يقتضى النهى عن الأكل بطريق الأولى، وإنما نهى عن القرب سدا للذريعة، فهذا أصل في سد الذرائع".[4] ومنها: قوله تعالى {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } (31) سورة النــور. ووجه الدلالة من الآية : أن الله –تعالى- نهى النساء عن الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه، لئلا يكون ذريعة إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
ومن الأحاديث، قوله صلى الله عليه وسلم : "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام،كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".[5] وقوله صلى الله عليه وسلم : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"[6]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم".[7] ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تسافر بغير محرم لأن سفرها بدون محرم ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها، كما نهى عن الخلوة بها سدا لذريعة ما يخاف من الفتنة، إذ الخلوة بالأجنبية مظنة الشهوة والطمع في المرأة والفجور بها ولو كانت كبيرة، وقد قالوا : "لكل ساقطة لاقطة". فسدا لهذا الباب حرم النبي صلى الله عليه وسلم الخلوة بالأجنبية...إلى غير ذلك من الأحاديث التي تحث على اجتناب مواطن الاشتباه، وهي أخف أنواع الذرائع وأدناها، فإذا كان اجتنابها مطلوبا خشية الوقوع في الحرام كان اجتناب ما يؤدي إلى الحرام مطلوبا من باب أولى.
بعد هذه التوطئة حول أهمية قاعدة سد الذرائع وحُجِّيَتها، وكونها من الأصول التى تبنى عليها الأحكام الفقهية، سأذكرحديثين نبويين متعلقين بمفارقة المشركين على ضوء القاعدة الفقهية. الحديث الأول : عن جرير ابن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم الناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل (أي نصف الدية)، وقال : "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين". قالوا يا رسول الله ولم ؟ قال : "لا تراءى نارهما"[8]. إن أهل خثعم كانوا مشركين محاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم من أسلم ولم يهاجر. فلما شن عليهم جنود السرية الحرب، قتل بعضهم بعض المسلمين الذين كانوا مقيمين بين المشركين، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم لأنهم لم يأخذوا بما أوجبه الإسلام من الهجرة. "فاعتصم الناس بالسجود": أي الذين أسلموا وبقوا بين المشركين دون أن يهاجروا، التجأوا إلى السجود ليبينوا أنهم مسلمون فلا يتعرض لهم جيش المسلمين. وإنما تبرأ منهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين المشركين، فكانوا كمن هلك بفعل نفسه وفعل غيره. وجاء بلفظ آخر: "برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم".[9] قال المناوي في شرح "الجامع الصغير" المعروف ب"التيسير": "برئت الذمة أي ذمة أهل الإسلام من مسلم أقام مع المشركين في ديارهم فلم يهاجر منها مع تمكنه من الهجرة".[10] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تراءى نارهما"؛ قال ابن الأثير في "النهاية": "أي يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره، تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان"[11] وقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تراءى نارهما" كناية على كراهية وتحريم الجوار أو المجاورة بين المسلمين والمشركين في بلاد الشرك، أي النهي عن إقامة المسلم في بلد المشرك بحيث يكون كل واحد منهما جارا للآخر، وتتراءى نارهما، أي أن المشرك يرى نار المسلم والعكس صحيح. أما في بلاد الإسلام فلا بأس من أن يجاور المسلم المشرك، لأن المسلم حينئذ لا يخشى عليه التأثر بسلوك المشرك وعقيدته، لكونه في بلاده ولكون الغلبة للمسلمين وسلطانهم. ويستفاد من هذا الحديث أن الذي يقيم بين المشركين من المسلمين وهو قادر على الهجرة، إذا قتل خطأ، فالإسلام برئ منه، ويتحمل جزءا من الجناية بسبب إقامته بين الكفار. وعليه فإن من أقام في بلاد غير المسلمين وهو قادر على أن يقيم في بلاد المسلمين، فسلب ماله، أو أهله، أو كرامته، أو حق من حقوقه الدينية أو المدنية، فإنما يتحمل مسؤولية ذلك كله هو وحده، والإسلام بريء منه. ووجه الدلالة من هذا الحديث فيما يتعلق بقاعدة "سد الذرائع"، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مجاورة المشركين ومساكنتهم في أوطانهم بتبرئه ممن يفعلون ذلك، وبقوله صلى الله عليه وسلم؛ "لا تراءى نارهما"، سدا لذريعة الوقوع فيما حرم الله من الشرك وباقي المحرمات التي يقترفها المشركون في عباداتهم وعاداتهم. أي أن المقام بين ظهراني المشركين ذريعة إلى ممارسة كثير من الأمور المحرمة التى ينهى عنها الشرع الحكيم، مما قد يفضى بالمسلم إلى الانحراف عن عقيدته الصحيحة وإلحاق الأذى بأهله وأولاده، خاصة إذا نشأوا وترعرعوا في بلاد الشرك، حيث يتكلمون لغة المشركين ويتأثرون بسلوكهم وعاداتهم، ثم يخضعون لسلطانهم وقوانينهم. وهكذا ينتقل الانحراف من الأولاد إلى الأحفاد.
الحديث الثاني : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وساكنه فإنه مثله"[12] ينطق هذا الحديث النبوي بالنهي الصريح على مساكنة المشركين والاجتماع بهم، لأن فعل ذلك يؤدي إلى التشبه بهم، والسقوط في المِثْلِيَة، أي أن المسلم يغدو شبيها بالمشرك . ووجه الدلالة من هذا الحديث فيما يتعلق بقاعدة "سد الذرائع" ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين نهيا جازما عن مساكنة المشركين والاجتماع بهم سدا لذريعة الوقوع في التشبه بهم وفي آفة المثلية.
وهذه المثلية يشهد لها قوله تعالى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140) سورة النساء. ولا شك أن المهاجر يسمع ممن يخالط من غير المسلمين ما فيه استهزاء بالله ورسوله مما قد لا يقدر على رده ودفعه، بل الحاجة كثيرا ما تدعوه إلى إظهار الموافقة، على أن مجامع ومجالس غير المسلمين في الغرب لا تخلو من الاستهزاء بالإسلام؛ إما بلسان المقال، وإما بلسان الحال. وكيف يأمن المسلم على نفسه الوقوع في المحرمات والشبه، وهو يعيش بين المشركين ويخالطهم ويجامعهم، إضافة إلى أنه مستضعف بينهم، بل كيف يأمن على نفسه الفتنة في دينه وعقيدته وهو على هذه الحال. فمثله كمثل ذلك الراعي الذي يرعى حول الحمى؛ فإنه معرض للوقوع فيه واستباحة محارم الله. والخلاصة أن المسلم الذي يقيم بين أظهر المشركين معرض للانحراف عن الصراط المستقيم والوقوع في المحرمات، وذلك لأنه يشبه الراعي الذي يرعى حول الحمى، مما يؤدي به تدريجيا إلى التشبه بهم وموالاتهم، وتقليد سلوكهم وعاداتهم ، الأمر الذي قد يسقطه أو يسقط أبناءه أو أحفاده في آفة "المثلية"، أي يصبح مثلهم. وللفقيه أحمد ابن تيمية كلام نفيس في هذا المعنى، قال رحمه الله : "فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي. وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام.... فنقول مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات. وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط. ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له. وكل ما كان سببا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة.... والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة."[13]
الهوامش :
[1]- د. محمود حامد عثمان؛ "قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي"، دار الحديث القاهرة، ص : 78، الطبعة الأولى، 1417 هـ/1996 م. 2 - أبو الوليد محمد بن رشد الجد؛ " المقدمات والممهدات"، ج 2، ص : 524. مطبعة السعادة مصر د.ت 3 - د. حسب الله : "أصول التشريع الإسلامي..."، ص : 283. 4 - تفسير ابن جزي: "التسهيل لعلوم التنزيل" ج1 ص 248. 5 - متفق عليه 6 - رواه أحمد والترمذي وابن حبان عن الحسن رضي الله عنه بإسناد صحيح (صحيح الجامع الصغير وزيادته). 7 - أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد باب حج النساء. 8- رواه أبو داود 3/45 رقم 2645، ورواه الترمذي: 4/155، رقم 1604، ورواه النسائي: 4/229 رقم 6982، وانظر التمهيد لابن عبد البر : 12/224،و نيل الأوطار : 8/27 رقم 3440. 9- رواه الطبراني في "المعجم الكبير" عن جرير بن بجيلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح. 10- عبد الرؤوف المناوي: "التيسير شرح الجامع الصغير" ج1 ص 432، ط الثالثة 1988، مكتبة الإمام الشافعي الرياض. 11- "النهاية في غريب الحديث والآثار" لمبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير، ج 2 ص 177، المكتبة العلمية، بيروت، د.ت. 12- أخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب، وحسنه الألباني كما في "الصحيحة"؛ رقم 2330 / ج 5 ص 434 13 - الفقيه أحمد ابن تيمية: "اقتضاء الصراط المستقيم"؛ ص 220، المكتب الثقافي السعودي بالمغرب، 1417هجرية.
0 تعليقات