القدوة بين الاتباع والابتداع


المبحث الأول: مفهوم القدوة عند جمهور المسلمين


توطئة
القدوة كلمة حسنة وجميلة تحمل معاني دينية وخلقية ومعرفية لا حدود لها. ولقد أتى على الإسلام زمن، كان المسلمون فيه يمارسون معاني القدوة ويجسدونها في حياتهم التربوية والثقافية والاجتماعية، فكانوا مثالا يحتذى في ميادين العلم والمعرفة والسياسة والتربية. وسرت في كيانهم تلك المعاني بعد أن آمنوا بعقيدة التوحيد، وآثروا حب الله عز وجل وحب نبيه صلوات الله وسلامه عليه على كل محبوب حتى أنفسهم، واندفعوا مسترشدين بالوحي القرآني والسنة النبوية، يفجرون الطاقات الكامنة في بواطنهم، ويوظفونها في بناء أحسن مجتمع إنساني، بل أفضل حضارة عرفها التاريخ البشري. ثم أتى عليهم زمن أصيبوا فيه بالوهن، وغدوا غثاء كغثاء السيل، فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم وضعفت في نفوسهم القيم الإسلامية، وأصبحت معاني القدوة الصحيحة وغيرها من معاني القيم الإسلامية أثرا بعد عين.
وجاء الغزو الاستعماري والمسلمون ضعفاء جبناء بسبب بعدهم عن الكتاب والسنة، فلم يستطيعوا مواجهة العدو، بل استسلم كثير منهم لهذا القدر، واعتبروا الأمر خارجا عن حدود طاقاتهم بما فشا فيهم من روح الكسل والتواكل. ثم إن المطلع على تاريخ الأمة الإسلامية بدءا من القرن الثامن الهجري إلى زمن الاستعمار الأجنبي، يصطدم بحقيقة مرة ومؤلمة؛ ألا وهي تطور ظاهرة التصوف الطرقي، وانتشار الزوايا والمؤسسات الصوفية الطرقية، وما يرتبط بذلك من نظم المشيخة والعادات والأعراف والطقوس المتعلقة بحياة المريدين وتربيتهم. وفي مقابل ذلك خفت صوت العلم وخبت جذوة ناره، وضعف الاجتهاد الفقهي، وتوقفت عجلة الثقافة عن الإبداع واستقراء السنن الاجتماعية والتاريخية، وأصاب الشلل كافة النواحي الدينية والاجتماعية والعلمية، وحلت القدوة الصوفية الطرقية محل القدوة العلمية الربانية التي كانت تنهل من مشكاة النبوة.
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فختم به الرسالة وهدى به من الضلالة، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء، وأوضح بها المحجة البيضاء. ولولا الرسالة لم يهتد الإنسان إلى تمييز النافع من الضار ولا الصالح من الطالح، ولم يتبين حقيقة بدايته ونشأته وحقيقة نهايته ومعاده، ولا سبب وجوده وجوهر حياته، ولا اطلع على أخص أوصافه وهو وصف العبودية، كما أن الأنبياء هم الأدلاء على ذات الله وصفاته، وهم الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله تعالى معرفة صحيحة لا يشوبها جهل ولا ضلال، وأن هذه المعرفة لا يستقل بها عقل، ولا يغني فيها ذكاء، ولا تكفي فيها سلامة الفطرة، يقول العلامة أحمد بن تيمية:
"الرسالة ضرورية للعباد، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذالك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة؛ وهو من الأموات."[1][1]
"وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته؛ ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من ذالك؛ وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده."[2][2]
يستفاد من كلام الفقيه أحمد ابن تيمية، أن الحياة الصالحة والنافعة إنما تحصل باتباع الرسالة والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الإعراض عن ذلك يجعل الإنسان ميتا وهو يحسب نفسه حيا. قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون"[3][3]. فمن استجاب لله وللرسول كان من الأحياء، وإن مات وفارق الدنيا. كما أن أكمل الناس حياة في الدنيا والآخرة، أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله وللرسول ظاهرا وباطنا.
قال العلامة المحقق القاضي أبو الفضل عياض السبتي:" قال جعفر بن محمد (أي جعفر الصادق): علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته... ، فأقام بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة، ألبسه من نعته الرأفة والرحمة، وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا، وجعل طاعته طاعته، وموافقته موافقته، فقال تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" (النساء، آية 80) قال أبو بكر محمد بن طاهر: زين الله محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة. فكان كونه رحمة وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى أن الله تعالى يقول: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء 107)"[4][4]
السنة النبوية روح القدوة الصحيحة
لا شيء أنفع للمحافظة على المقومات الذاتية للمسلم وعلى أصالته، والارتقاء بسلوكياته وأخلاقه، ولتحقيق أمنه وسعادته في الدنيا والآخرة من سنة الرسول محمد صلوات الله وسلام عليه وعلى آله. ولقد ضلت البشرية وما زالت، عندما ظنت أن الأمن والسعادة يمكن جلبهما وتحقيقهما اعتمادا على العقل وحده، فتكسرت معاول الفلاسفة والعباقرة ومدعي الحكمة، على صخور الحقيقة الشماء، وخارت قواهم من فرط البحث والتنقيب، وأنهكهم الكبر والعجب والغرور، فحالت حجب النفس بينهم وبين المعرفة الصحيحة. وهل لغير الخالق القدرة على الإحاطة بطبيعة الإنسان وجلب المنافع له ودفع الأضرار عنه؟ لا ورب السموات والأرض.
إن المعرفة الصحيحة بالإنسان ينبغي أن تستمد من خارج نطاق العقل الإنساني، أي من الوحي الإلهي المتجسد في الرسالة النبوية.
والسنة المطهرة قسمان: واجب ومستحب، والأول لا يمكن تركه، والثاني إما متعلق بالعبادات والمعاملات، أو مرتبط بالآداب النبوية الشريفة. فالمسلم الذي يحافظ على السنة الواجبة ويجتهد في ممارسة السنة المستحبة، حتى تتحول عاداته إلى عبادات، فإنه يستفيض من نور الأدب النبوي، وتكون حياته مرتبطة بحياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ورسولنا أولى الناس بالتقليد والاتباع، لما في ذلك من الحكمة والمصلحة الشخصية والاجتماعية. ومن لم يتبع السنة متكاسلا عنها فهو في خسران مبين. ومن لم يتبعها غير مكترث بها، فقد جنى على نفسه جناية كبرى. أما من ينتقدها أو ينتقص من قدرها، فهو في ضلالة عظيمة.
ولما كانت خِلقة الرسول صلى الله عليه وسلم، في أحسن تقويم وأفضل وضع وأعدله، وأكمل صورة وأبهاها، وكانت شخصيتة صلوات الله عليه مثالا للصفات الحسنة والأخلاق السامية، فإن جميع ما يصدر منه من حركات وسكنات، وأقوال وأفعال، يسير وفق الاعتدال والاستقامة والوسطية، ويهدف إلى معاني الاستخلاف كما يهدف على معاني العبودية في أبهى وأجمل صورها وتجلياتها. قال الفقيه العلامة القاضي أبو الفضل عياض السبتي: " وقد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى في أم الكتاب "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم"، فقال أبو العالية والحسن البصري: الصراط المستقيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخيار أهل بيته وأصحابه، حكاه أبو الحسن الماوردي، وحكى مكي عنهما نحوه، وقال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وحكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية في قوله تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم )، قال فبلغ ذلك الحسن فقال صدق والله ونصح"[5][5]
كيف لا وقد تم اصطفاؤه صلوات الله عليه، والبشرية لا أثر لها، وأحبه الله وأعلى منزلته ولما يخلق ويبعث، وبشر به عيسى عليه السلام قومه، بل مدحه الله تعالى قائلا: " وإنك لعلى خلق عظيم"[6][6]وقوله كلامه، وكلامه من صفاته، وصفاته من ذاته، فأعظم بها من منزلة، وأكرم بها من نعمة.
كيف لا وقد جمع صلوات الله وسلامه عليه شرف الأخلاق إلى شرف الأعراق، وكرم الآداب إلى كرم الأنساب. كما أنه صلى الله عليه وسلم "ذرع الأمة وحصنها ولسان الشريعة، وقرارة الأدب والعلم، ومجمع الدراية والفهم، وخلقه لو مزج به البحر لنفى ملوحته، وصفى كدورته، خلق كالرحيق مزاجه التسنيم، خلق كنسيم الأسحار، على صفحات الأنوار، يمشي في أقصد الطرق، ويأخذ بأرشد الخلق، قد أتاه الله قوة بصيرة، وحسن سريرة، أعرض عن الدنيا، وقد أعرضت له بزينتها، وصد عنها وقد قصدت له في تحليتها، كما أنه صلى الله عليه وسلم غذاء الحياة ونسيم العيش، وقوة النفس ومادة الأنس"[7][7]
ولقد بين الإمام أحمد بن تيمية أن " طريقة أهل السنة، اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وآتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"عليكم بسنتي" إلى آخر الحديث. فهم إنما سموا بأهل السنة لهذا المعنى، وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، نسبة إلى الأصل الثالث وهو الإجماع ويقصد به الإجماع المنضبط وهو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف، وافترقت الأمة"[8][8]
وقال أيضا: "الحق دائما مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة، وأن كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة، لم يكن القول الذي انفردت به إلا خطأ، بخلاف المضاف إليه أهل السنة والحديث، فإن الصواب معهم دائما، ومن وافقهم كان الصواب معه دائما لموافقته إياهم... فإن الحق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه. ."[9][9]
ولما أعرض كثير من الطوائف الكلامية، والفلسفية، والصوفية، والحلولية والطرقية، عن النظر في الأحاديث النبوية الصحيحة والاحتكام إليها، استعملوا آلة التأويل واندفعوا يؤولون جملة من الآيات القرآنية، مسترشدين في ذلك بأهوائهم وعواطفهم وبآراء ومعتقدات تسربت من ملل وعقائد وفلسفات أجنبية.
قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي" "وإنما وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي وإطراحهم السنن وذلك أن السنة، كما تبين، توضح المجمل، وتقيد المطلق، وتخصص العموم، فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة، وتعلم بذاك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ، فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره، جاهلا بالكتاب خابطا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها؛ إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير."[10][10]
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عماله بتعلم السنة والفرائض واللحن أي اللغة، وقال إن ناسا يجادلونكم- يعني بالقرآن- فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"[11][11]
وقال عبد الله بن مسعود: " الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، وقال بن كعب رضي الله عنه: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فمسته النار أبدا. وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.
" وقال الأوزاعي رضي الله عنه: اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم"[12][12]
"وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ"[13][13]
إن هذه النصوص وأمثالها تنبه القارئ الفطن على مدى حرص السلف الصالح – رضي الله عنهم- على احترام السنة وتقديسها، والتفاني في حبها والعمل بمقتضاها والاحتكام إليها، والتواصي بالصبر عليها ونبذ طريق أهل التأويل والبدع. بل إن الخليفة الأول رضي الله عنه عندما قال: "... إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ"، ليعبر بكلام جامع مانع عن مفهوم القدوة عند جمهور المسلمين، وعن قوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". [14][14]فشدة محبته لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده الراسخ في أن السعادة متعلقة بها، والنجاة منوطة باتباعها، كل ذلك جعله يخشى ويخاف الزيغ إن هو ترك شيئا منها. والزيغ لغة هو الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، ويقال زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد ومنه قوله تعالى: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم"[15][15].
إن هذا الخليفة الجليل يعتبر أن ترك شيء من السنة، قد يكون سببا في الخروج عن الجادة والقصد، أو في ذهاب شيء من العقل، وبالتالي قد يؤدي بالمسلم إلى نوع من الانحراف. نعم إنه رضي الله عنه على الرغم ما عرف به من فطنة وحلم ورجاحة عقل ورأي ثاقب وأصيل، فإنه كان يجتهد في الاهتداء بالسنة في كل صغيرة وكبيرة، وموقفه رضي الله عنه من أصحاب الردة خير دليل على ذلك، إذ لو احتكم إلى العقل والرأي والحكمة والوضع السياسي، لكان سلك سبيلا آخر، ولهذا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اعترض عليه:"... . والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك".[16][16]
إن أبا بكر رضي الله عنه عندما يخاف على نفسه أن يقوم بعمل أو يسلك مسلكا يكون العقل وحده فيه قائدا، فإنه ينطلق من قناعة راسخة مفادها أن سنة من لا ينطق عن الهوى أولى بالاتباع والاسترشاد، حتى في أدق الأمور. ومن هنا فليس المسلم الذي يتخذ محمدا صلى الله عليه وسلم قدوة ويغترف من عين السنة النبوية ويهتدي بهد يها، ولا يعترض عليها، كالمسلم الذي يتخذ شيخا طرقيا قدوة ويغترف من عين عقله وروحه، ويقتدي بسلوكه ولو كان سلوكا بدعيا.
هذا ويستفاد أيضا من قول أبي بكر رضي الله عنه: "... . إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " أن تمام العقل مشروط بتمام السنة والهدي النبوي، أي كلما كان المسلم أعلم بالسنة، وأحفظ لها وأحرص على فعلها وممارستها، كان عقله أقرب إلى التمام والكمال والفكر الصحيح. ولذا نفى الله العقل عن المشركين والكافرين، قال تعالى." وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"[17][17]. وقال أيضا: " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون"[18][18].
فنور العقل من نور السنة، وظلامه من ظلام الكفر أو الجهل أو البدعة."قال أبو عثمان الحيري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة"[19][19]
كما أن المسلم الذي لا يحرص على اتباع السنة وتعظيمها، يوشك أن يقع في البدعة، خاصة إذا كان إلى الجهل أميل. كما أن نور السنة إذا دخل القلب وسطع في جوانبه، بدد كل ما فيه من ظلمة الضلالات والبدع، فكذلك ظلام البدعة إذا تمكن من القلب نفى عنه كل ما له علاقة بنور السنة.
" قال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وقال الفضيل بن عياض: من جلس إلى صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإيمان – أو قال الإسلام- من قلبه" [20][20]. ثم إن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من جنس العبادات ولم يفعله مع وجود المقتضي لفعله على عهده صلى الله عليه وسلم، ففعله بدعة، وتركه سنة، كالاحتفال بالمولد وإحياء ليلة الإسراء والمعراج، والهجرة، ورأس السنة، ونحوها، يدل لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"[21][21]
وخلاصة القول، إن إقامة السنة ومراعاتها والحفاظ عليها، يجعل الإنسان المسلم يحيا دائما في حال من الوعي الداخلي، واليقظة الشديدة وضبط النفس. ثم إن الانضباط السلوكي وفقا لتعاليم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، المبثوثة في سنته الغراء، يقوي إرادة المسلم ويضاعف من طاقاته العقلية والروحية، فيغدو أكثر نشاطا وفاعلية ونفعا، وأقدر على القيام بوظيفة الاستخلاف. كما يساعده على التخلص من الأعمال والعادات والسلوكات التي تعرقل النشاط الإنساني وتحول دون التعلم والتقدم. وهكذا من خلال إقامة السنة والحفاظ عليها، ومن خلال ذلك الانضباط السلوكي وفقا لمبادئها وتعاليمها تصبح شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم متغلغلة في منهاج العامل الحقيقي الذي يقوده طول حياته.
الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم طريق المقتدي
وهذا باب عظيم من أبواب السنة من دخله نال الخير العميم وحظي بالنعيم المقيم، ومن أبى فهو إلى الشقاوة أميل وعن الخير أبعد. ولقد حث الشارع على هذا الأدب وأمر به في مطلع سورة الحجرات، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله."
والأمر يفيد الوجوب كما هو معلوم عند علماء الأصول، وبالتالي فمن الواجب على المسلم أن يعظم شأن نبيه صلى الله عليه وسلم، ويتأدب معه كأنه حي بين أظهرنا، ويجتهد في اتباعه والاقتداء به. قال صاحب المواهب اللدنية: "فمن الأدب ألا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى، ويأذن كما أمر الله بذلك في هذه الآية، وهذا باق إلى يوم القيامة لم يفسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته، لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم"[22][22].
وهل ضل أكثر من ضل من المسلمين إلا بسبب التقدم بين يدي سنته صلى الله عليه وسلم، من خلال اتباع الأهواء والخيالات، وما تمليه النفوس من الأوهام والتصورات الخاطئة، وترجيح الآراء على نصوص السنة وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم؟‼
لقد تجرأ هؤلاء الناس على نبيهم صلى الله عليه وسلم وسنته، فزلت أقدامهم وحبطت أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكيف يرجو الهدى من أعرض عن علم الهدى؟ بل كيف يستقيم حاله وهو يتخبط في متاهات الأهواء والآراء.
قال الإمام محمد بن قيم الجوزية رحمه الله: "فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا. أو يحمله شبهة وشكا، أو يقدم عليه آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان. كما وحد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل. فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه."[23][23]
ويدخل أيضا في باب الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، تعظيمه وتوقيره، بل لا يتحقق المسلم بصفات الأدب معه صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان معظما وموقرا له. قال تعالى "إنّا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا"[24][24].
والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.
وذكر القاضي أبو الفضل عياض كلاما جميلا متعلقا بتعظيم الإمام مالك رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم – أسوقه كاملا بنصه: " قال مطرف: كان إذا أتى الناس مالكا خرجت إليهم الجارية فتقول لهم يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله واغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا ولبس ساجه وتعمم ووضع على رأسه رداءه وتلقى له منصة، فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال غيره ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي أويس فقيل لمالك في ذلك فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا.
قال وكان يكره أن يحدث في الطريق أو وهو قائم أو مستعجل. وقال أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ضرار بن مرة: كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير وضوء، ونحوُه عن قتادة.
وكان الأعمش إذا حدث وهو على غير وضوء تيمم.
قال عبد الله بن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا؛ فلدغته عقرب ست عشرة مرة وهو يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغ من المجلس وتفرق عنه الناس قلت له يا أبا عبد الله لقد رأيت منك اليوم عجبا. قال نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم". [25][25]
رضي الله عنك يا شيخنا الإمام مالك وطيب الله ثراك، فقد أحببت النبي صلى الله عليه وسلم وعظمت كلامه وتأدبت بأدبه ونشرت سنته الغراء.
ويدخل في باب الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، الثناء عليه بما هو أهله. وأفضل ذلك الصلاة والسلام عليه، قال تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما "[26][26]. والإكثار من ذكره والتشوق إليه. وتعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذكر أخلاقه وصفاته وخلاله، وما كان من أمور دعوته وسيرته وغزواته، والتمدح بذلك شعرا ونثرا.
وكذلك التأدب عند ذكره صلى الله عليه وسلم بأن لا يذكر باسمه مجردا، بل يوصف بالنبوة أو الرسالة، وهذا كما كان أدبا للصحابة رضي الله عنهم في ندائه فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره، فلا يقال: محمد، ولكن: نبي الله أو رسول الله، ونحو ذلك.
كما يدخل في باب الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، توقير كلامه وحديثه عند سماعه والوقار عند دراسته. ولعل من ثمرات تعظيم المسلم للرسول صلى الله عليه وسلم، وتوقيره والتأدب معه، حصول محبته في قلبه والإكثار من ذكره والصلاة عليه وهو ما سأتناوله في ما يلي.

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم زاد المقتدي
"لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تنصب المادة في المادة، لتمتزج بها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها فما تبرح هذه الإنسانية تنمو به وتتحول.
كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه، ... فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته؛ فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجئ من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها: كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان في محمد صلى الله عليه وسلم، سر كمالها"[27][27].
إذا كان إنسان يحب إنسانا آخر لسبب من الأسباب، أو لأجل مصلحة معينة، فإن العبد المسلم المطيع لا يسعه إلا أن يحب نبيه أشد محبة ويوقره أعظم توقير، لما في ذلك من تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية. فلا تتيسر مصالح المسلمين على الوجه المناسب والأكمل إلا من طريق محبتهم له صلى الله عليه وسلم. ذلك لأن رسولنا الكريم قد بين من خلال حياته ومعاملاته، وسنته الطاهرة، الطريق التي ينبغي أن يسلكها المسلم كي ينجو من عذاب الله في الدنيا والآخرة. وهل هناك غاية أجل من هذه الغاية ؟
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم، بصفاته المحمودة ومحاسنه السامية وفضائله المتعددة وأخلاقه الرضية، يدعو المسلم الحق لأن يحبه ويجله ويعظمه بقلبه ولسانه؛ قال الدكتور محمد دراز: " ومحبة الله ورسوله هي أرقى أنواع هذه المحبة العقلية وأقواها، فمن كان باعث المحبة عنده معرفة ما في المحبوب من كمال ذاتي، فالله تعالى أحق بمحبته؛ إذ الكمال خاصة ذاته، والجمال الأتم ليس إلا لصفاته، والرسول صلى الله عليه وسلم أحق من يتلوه في تلك المحبة؛ لأنه أكرم الخلق عند ربه، وهو ذو الخلق العظيم والهدي القويم، ومن كانت محبته للغير تقاس بمقاس ما يوصله إليه ذلك من الغير من المنافع وما يغدق إليه من الخيرات، فالله تعالى أحق بهذه المحبة أيضا، وإن نعمه علينا تجري مع الأنفس ودقات القلوب، ولا نعمة إلا هو مصدرها، "وما بكم من نعمة فمن الله؛ (النحل53 )، "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" (النحل 18 )، وهذا الرسول الكريم الرؤوف الرحيم هو واسطة النعمة العظمى، إذ هو الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهدى، واستنقذنا به من النار بعد أن كنا على شفا حفرة منها؛ فليس بعد الله أحد أمن علينا منه، ومحبته الحقيقية شعبة من محبة الله" [28][28]
كما أن محبته واجبة بنص الكتاب؛ قال تعالى: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين"[29][29]. فهذه الآية تدل دلالة صريحة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم. بل إن الله سبحانه وتعالى يتوعد الذين يفضلون آباءهم وأبناءهم... ومتاعهم على خالقهم وعلى رسوله، كما ينعتهم بالفسق والعياذ بالله.
ومن علامات محبة العبد المسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ طاعته فيما أمر ونهى، والاقتداء به واقتفاء أثره، ومحبة ما جاء به ودعا إليه، وكذا ذكره والشوق إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"[30][30].
وقال الإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني: " وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها. أم نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب. وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا.
فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما مباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه."[31][31]
ولعل من أقوى أسباب جلب محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القلب؛ الإكثار من ذكره والصلاة والسلام عليه، فإن الإنسان كلما أكثر من ذكر محبوبه واستحضاره في قلبه، قوى تعلقه به واشتاق إلى رؤيته والجلوس معه، ولا شئ أقر لعين العبد المسلم الذاكر من رؤية ربه تعالى، ورؤية نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا إذا أكثر العبد المسلم من ذكر رسوله وحبيبه، والتفكر في أخلاقه وشيمه وسنته، استقر حبه في قلبه، واستولى على كيانه، مما يعينه على التأسي به والدعوة إلى اتباع سنته.
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أشير بأن قوما ادعوا محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بأفواههم، ولم يعملوا بكلامه ولا بأفعاله، بل خالفوا سنته وابتدعوا أذكارا وصلوات، ونظموا أشعارا في مدحه، وراحوا يتباكون ويتغنون بها في مناسبات معينة، وهم يحسبون أنهم بذلك يتقربون إلى الله ورسوله، وشتان بين زفرات الثكلى ودموع النائحة، وبين البكاء والمكاء.
محبة الصحابة واقتفاء أثرهم
لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الصحابة ورضي عنهم ووعدهم الحسنى، قال تعالى "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنهم"[32][32]. وقال تعالى أيضا "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا"[33][33]. وأثنى سبحانه على المهاجرين والأنصار والذين جاءوا بعدهم حيث قال في سورة الحشر 8-10: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم"[34][34]
"وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال:من كان منكم مستنا فليستنن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"[35][35]
وروى ابن ماجة عن عوف بن مالك رضي الله عنه:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده: لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله، من هم؟ قال الجماعة"[36][36]
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو: "وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة: ما أنا عليه وأصحابي"[37][37]
إن نبينا صلى الله عليه وسلم عندما يقول."ما أنا عليه وأصحابي" يشير إلى أن النجاة يوم القيامة مشروطة ورهينة باتباع سنته وسنة من اصطفاهم من الخليقة وجعلهم أصحابه، فلا يمكن اتباع الرسول دون اتباع الصحابة وحبهم واقتفاء آثارهم، لأنهم أفضل من تسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن من تفقه فيها وعلم مغزاها وغايتها، "ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: "من يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" وهي تفيد بمفهومها أن كل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول ولابد، ومن شاقه صلى الله عليه وسلم فقد اتبع غير سبيلهم يقينا، إذا فكل من اتبع غير سبيل المؤمنين، والمؤمنون هم الصحابة أصلا، ومن تبعهم فهو تبع لهم، فقد شاق الرسول صلى الله عليه وسلم واستحق صلي جهنم في الآخرة"[38][38]
وبنفس المعنى ينطق حديث العرباض بن سارية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"[39][39]
وروى أبو داود في سننه عن حذيفة رضي الله عنه، قال: كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوا بها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا، فاتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم"[40][40]، نعم كيف يمكن لمسلم أتى بعد الصحابة رضوان الله عليهم بقرون طويلة، وشرع في سن طرق جديدة في السلوك والعبادة وابتدع أساليب في ذلك لم تكن معهودة لدى الصحابة الكرام مدعيا أن هذا الاجتهاد الذي تفتق عليه ذهنه وجادت به قريحته، هو فتح من الله سبحانه وتعالى ونفحة من نفحاته؟ أليس هذا يعني أن صاحبنا (المجتهد) قد استثقل عبادة الصحابة، أو أنه قد اطلع على ما لم يطلعوا عليه أو فاقهم في أمور وأشياء وأسرار متعلقة بالعبادة والتقرب إلى الله، والحال أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينهلون من مشكاة النبوة ويتلقون مظاهر العبادة وأسرارها مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أولى الناس بعد نبيهم بالتفقه فيها وضبط معالمها ورسم حدودها، والمسلمون تبع لهم في ذلك ولا يسعهم إلا الاقتداء بهم واقتفاء أثرهم.
وبالمناسبة أسوق كلاما للفقيه الأصولي أبي إسحاق الشاطبي يلامس صلب الموضوع، ويعضد قواعده؛ قال رحمه الله في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة": "سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها، ويرجع إليها. ومن الدليل على ذلك أمور:
أحدها: ثناء الله عليهم، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها، كقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران؛110)، وقوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويَكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة؛143)... . ولا يقال: إن هذا عام في الأمة، فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم. لأنا نقول: أولا ليس كذلك؛ بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص، ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر.
والثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. .".
والثالث: أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا. [41][41]
يستفاد من كلام العلامة الأصولي أبي إسحاق الشاطبي، أن الصحابة رضوان الله عليهم أعلم الناس بمقاصد الدين والشريعة، وبأصول العقيدة وموازين المصلحة والمفسدة ولذلك كان كلامهم حجة ودليلا واجتهادهم مرجعا وأصلا في فهم الكتاب والسنة والعمل بهما، كيف لا وهم حفظة السنة ونقلتها وأعلم الناس باللغة وبيانها، وبمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن وتأويله.
والخلاصة أن كتاب الله تعالى وسنة رسوله وسنة الصحابة رضوان الله عليهم "هو الميزان الجامع الذي توزن به العقائد والأصول والأقوال والأفعال والاجتهادات". ومن ثم فإن القدوة الصحيحة التي ينبغي للمسلم أن يتأسى بها ويعض عليها بالنواجذ، هي التي تمثلت في النبي صلى الله عليه وسلم وتجسدت في أصحابه الأطهار الميامين. أما ما سوى ذلك فزيغ وضلال ووهم وتخمين وتلبيس من تلبيس إبليس، وقانا الله شره وكيده آمين والحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد الله الشارف،
الفصل الأول من رسالة:"القدوة بين الاتباع والابتداع"
الرباط/ المغرب ؛1428/2007



[42][1]- أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى ج 19 ص 93
[43][2]- أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى ج 19 ص 101
[44][3]- سورة الأنفال، آية 24.
[45][4]- القاضي أبو الفضل عياض السبتي: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" دار الكتب العلمية بيروت 1420/2000 الجزء الأول ص 18
[46][5]- الشفا بتعريف حقوق المصطفى... ... الجزء 1 ص 22
[47][6] - سورة القلم، آية 4
[48][7]- مقتطف من "لباب الآداب"لأبي منصور عبد الملك الثعالبي، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، ط1 1424-2003. ص 209-210.
[49][8] - أحمد بن تيمية؛ مجموع الفتاوى، ج3 ص157
[50][9] - أحمد بن تيمية؛ منهاج السنة، ج3 ص46
[51][10]- الموافقات المجلد الثاني الجزء الرابع ص 15
[52][11]- الشفا بتعريف حقوق المصطفى ن الجزء الثاني ص 9
[53][12]- عبد الرحمن أبو بكر السيوطي: " الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" تحقيق مصطفى عبد القادر عطا/ دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1408/1988/ ص 12-13
[54][13]- الشفا، المرجع السابق ج 2- ص 12.
[55][14] - سورة الأحزاب، آية 21
[56][15] - سورة الصف، آية 5
[57][16]- "إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء" الشيخ الخضري / دار الفكر العربي بيروت/1992 ص 25.
[58][17] - سورة الملك، آية 10.
[59][18] - سورة الحشر، آية 14
[60][19] - أبو بكر جابر الجزائري؛ "هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، المكتبة العصرية صيدا، 1420-1999، ص 366.
[61][20]- السيوطي: الأمر بالاتباع. . المرجع السابق ص 19.
[62][21] - رواه مسلم.
[63][22]- شرح العلامة الزرقاني على "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" للعلامة القسطلاني الجزء الثامن ص 521 / دار الكتب العلمية بيروت 1417-1996
[64][23] - محمد بن قيم الجوزية؛ "مدارج السالكين"، ج 2، ص 436. دار الجيل، بيروت، د. ت.
[65][24] - سورة الفتح، آية 9.
[66][25] - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ... المرجع السابق، ج 2، ص 29.
[67][26] - سورة الأحزاب، آية 58.
[68][27] - مصطفى صادق الرافعي، "وحي القلم"؛ ج1، ص304، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1422-2001، ط. 1.
[69][28]المختار من كنوز السنة، ص 344، 345
[70][29]- سورة التوبة، آية 24
[71][30]- حديث صحيح، ذكره البخاري في كتاب الإيمان
[72][31]- أحمد بن حجر العسقلاني؛ "فتح الباري..."، ج1، ص 83. المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، ط1، 1420-2000.
[73][32]- سورة التوبة، آية 100.
[74][33]- سورة الفتح، آية 29
[75][34] - سورة الحشر، آية 8-9-10.
[76][35]– شرح العقيدة الطحاوية للعلامة ابن أبي الخير الحنفي، صغتها وراجعتها جماعة من العلماء، خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني/ بيروت ط 9. 1408/1988، ص 383.
[77][36]– سنن ابن ماجة (2/1322)
[78][37] - انظر "تحفة الأحوذي" 7-399-400.
[79][38]– أحمد سلام: "ما أنا عليه وأصحابي" دراسة في أسباب افتراق الأمة... . / دار ابن حزم بيروت 1416/1996، ص51.
[80][39]– رواح الحاكم وقال حديث صحيح.
[81][40]– الأثر أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة باب 28
[82][41]- الموافقات في أصول الشريعة... المرجع السابق، ج 4، ص 55-56-57.



إرسال تعليق

0 تعليقات