مناظرة صوفية - الجزء الأول

بسم لله الرحمن الرحيم      والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين.


مناظرة صوفيـــة
(الجزء الأول)


مقدمة:
مما لا ريب فيه أن التصوف غدا من الظواهر العقدية والنفسية والسلوكية، التي تعكسها الحياة المعاصرة في شتى بلدان العالم.
وإذا كانت هذه الظاهرة قد عرفت أساسا لدى الشعوب المتدينة كالشعب المسلم أو اليهودي أو المسيحي أو البودي، فإنها قد بدأت تنتشر في المجتمعات الغربية العلمانية، كرد فعل ضد التيار المادي الذي اجتاح ثقافة هذه المجتمعات، حيث أصبح التصوف الإسلامي أو المسيحي أو البودي، يدرس في الجامعات الغربية، كما كثرت المؤسسات والجمعيات والزوايا والنوادي التي يؤمها المتصوفة الغربيون فارين من جحيم الحضارة المادية.
ولعل الأبحاث والدراسات والندوات حول مادة التصوف في العالم الغربي اليوم، أكثر غزارة وعمقا من تلك التي تقام أو تصدر في البلدان الإسلامية.
ومن ناحية أخرى، لاحظ بعض الباحثين والنقاد في ميدان السياسة الثقافية في العالم، ان الحكومات الغربية لا تخشى كثيرا من انتشار الإسلام الصوفي بين رعاياها، في حين تعبر عن استيائها وخوفها من (الإسلام السلفي)، أو ما تسميه بالإسلام الإرهابك .!!كما أن معظم الحكومات في العالم الإسلامي تعبر عن الإحساس نفسه، مما يفيد أن حلقات السياسة العالمية مرتبطة فيما بينها ارتباطا وثيقا، وهكذا فإن ظاهرة التصوف تحظى بالقبول والمباركة من قبل أصحاب القوة والقرار السياسي في العالم، لكون هذه الظاهرة تحاصر، بانتشارها، الإسلام  السني  أو السلفي.
والخلاصة أن التصوف الذي غدا مكونا من مكونات الثقافة العالمية، يقوم بدورين هامين، أولهما:
تلبية الرغبة النفسية والعقدية لدى الشخص المتصوف.
وثانيهما: خدمة هدف من أهداف السياسة.
ومما يؤسف له أن التصوف المنتشر الآن في المجتمعات الغربية، أو التصوف الطرقي في العالم الإسلامي، كلاهما بعيدين شكلا ومضمونا عن تصوف الرعيل الأول،  أو مدرسة المؤسسين من أمثال؛ الفضيل بن عياض وأبي القاسم الجنيد والحارث المحاسبي وغيرهم.
ويرجع اشتغالي بميدان التصوف إلى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي، حيث مارست تجربة صوفية عملية، وقرأت كثيرا من المصادر والمصنفات والدراسات الصوفية خلال عقد من الزمن، وأسند إلي تدريس مادة التصوف في كلية أصول الدين بتطوان، وكذا مادة الفلسفة الإسلامية، كما نشرت بعض الأبحاث والمقالات المتعلقة بالموضوع.
وفي يوم من أيام رمضان المنصرم  1431هـ، أشار علي ولدي عبد الرحمن حفظه الله بالمساهمة في الحوار الصوفي من خلال المنتديات الصوفية المنتشرة عبر شبكة الإنترنيت، فاستحسنت رأيه ودخلت في حوار مع أشخاص متصوفة يعملون في "منتدى الصوفية"، ذلك الحوار الذي استغرق ما يقرب من شهر، والذي أثمر نص هذه المناظرة التي أقدمها لطلبتي وللقراء المهتمين بمجال التصوف.
وتعتبر المناظرة من الفنون الأدبية والفكرية التي اشتهر بها كبار العلماء من الفقهاء، والأصوليين، والكلاميين، والمتفلسفة، والمناطقة. كما ناظر علماء مسلمون أصحاب الملل من اليهود والنصارى والمجوس، في موضوعات عقدية وفكرية متنوعة.
ومن المناظرات المشهورة في التراث الإسلامي؛ مناظرات الإمام الشافعي للفقهاء في عصره، ومناظرات الإمام أبي حنيفة، ومناظرة أبي سعيد السيرافي لأبي بشر متى المسيحي في موضوع المنطق، ومناظرات الشيخ أحمد بن تيمية لخصومه من أصحاب الأهواء والبدع.
والمناظرة هي المحاورة بين شخصين أو فريقين حول موضوع ما، لكل شخص أو فريق منهما وجهة نظر فيه تخالف وجهة نظر الشخص أو الفريق الآخر. وكلاهما يحاول من خلال المناظرة إثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر خصمه. قال أبو الوليد الباجي الأندلسي عن الجدل أنه : "من أرفع العلوم قدرا وأعظمها شأنا، لأنه السبيل إلى معرفة الاستدلال وتمييز الحق من المحال... ولولا تصحيح الوضع في الجدل لما علم الصحيح من السقيم، ولا المعوج من المستقيم"[1].
والمناظرة لها علاقة متينة بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال أبو الحسن الأشعري في هذا الصدد: "إن أول ما ما يجب في المناظرة؛ تقديم التقرب إلى الله عز وجل، ومجانبة الرياء والمباهاة والمحك واللجاج والتكسب، وأن يجري في ذلك مجرى المؤتمر لما أمره الله تعالى به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..."[2].
وقال الإمام أبو المعالي الجويني:
"إذا رأى العالم مثله يزل ويخطئ في شيء من الأصول والفروع، وجب عليه، من حيث وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دعاؤه عن الباطل وطريقه إلى الحق والصواب. فإذا لج في خطابه وقوى على الحق شبهته، وجب على المصيب دفعه عن باطله والكشف له عن خطئه بما أمكنه من طريق البرهان وحسن الجدال، فحصل إذ ذاك بينهما المجادلة من حيث لم يجدا منه في تحقيق ما هو الحق وتمحيق ما هو الشبهة والباطل، وصار إذ ذاك بهذا المعنى، الجدل من آكد الواجبات، والنظر في أولى المهمات، وذلك يعم أحكام التوحيد والشريعة"[3].
وقبل هذا وذاك، " إن القرآن مملوء من الحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد وإثبات الصانع والمعاد...  فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلا صحيحا على ذلك إلا وهو في القرآن بأفصح عبارة وأتم معنى... وهذا أمر تميز به القرآن وصار العلماء به من الراسخين في العلم، وهو العلم الذي يطمئن إليه القلب، وتسكن إليه النفس، ويزكو به العقل، وتستنير به البصيرة، وتقوى به الحجة، ولا سبيل لأحد من العالمين إلى قطع من حاج به... ولكن أهل هذا العلم لا تكاد الأعصار تسمح منهم إلا بالواحد بعد الواحد... إن القرآن مملوء بالاحتجاج، وفيه جميع أنواع الأدلة والأقيسة الصحيحة، وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحجة والمجادلة... وهذه مناظرات القرآن مع الكفار موجودة فيه، وهذه مناظرات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لخصومهم وإقامة الحجة عليهم لا ينكر ذلك إلا جاهل مفرط في الجهل"[4].
وبعد، فلست من المناظرين، ولا مناظرتي هاته ترقي إلى مستوى المناظرات المشار إليها، وإنما هي محاولتي الأولى في هذا الميدان، خضت غمارها بطريقة عفوية وتلقائية، حيث إن المناظرة، قبل كونها فنا وعلما له ضوابطه وشروطه، تعكس طبيعة المخاطبة البشرية الفطرية والتفاعل الطبيعي بين بني الإنسان. فإن كان الصواب حليفي فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، والله الموفق وهو نعم المولى ونعم النصير.



[1] - أبو الوليد الباجي: "المنهاج في ترتيب الحجاج"، تحقيق عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، 1987، ص 8.
[2] - أبو الحسن الأشعري: "مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري من إملاء الشيخ الإمام أبي بكر محمد أبي الحسن بن فورك"، تحقيق دانيال جيماريه، دار المشرق بيروت 1987، ص293.
[3] - أبو المعالي الجويني؛ "الكافية في الجدل"، تحقيق فوقية حسين محمود، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1979، ص24.
[4] - محمد بن قيم الجوزية: "مفتاح دار السعادة"، دار الكتب العلمية بيروت ج1 ص144.
ا.


بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد : أقدم بين أيديكم، زوار وقراء "منتدى الصوفية"، مقالا من مقالاتي المتعلقة بمجال التصوف والذي يحمل عنوان:


"بين شيخ التربية وشيخ العلم والتعليم"


تمهيد:  مفهوم القدوة عند الصوفية

لعل من نافلة القول، أن شيخ الطريقة يعتبر العمود الفقري لكل طريقة صوفية، فالشيخ كلما كان متمتعا بصفات وأحوال نفسية وروحانية متميزة، اكتسبت طريقته مزيدا من الصيت والذيوع وكثر مريدوها. وإن من أصول أصحاب الطرق، ضرورة وجود شيخ مأذون له أو لمن ينوب عنه في إعطاء الورد للمريد. وينظر المريدون إلى شيخهم نظرة المريض إلى الطبيب؛ فكما أن لأمراض البدن طبيبا مختصا في علاجها، كذلك الأمر فيما يتعلق بأمراض النفس وعلل القلوب، إذ يتصدى لها الشيخ الصوفي ويعالجها بما أوتي من علوم ومعارف وأحوال، يستطيع بواسطتها استكشاف نفسية المريض، والوصول إلى مكامن الداء والمرض في قلبه، ثم يصف له العلاج ويداويه بما يناسبه من الدواء.
ويجب على المريد كي يحقق ما يريد تحقيقه، أن يتأدب مع شيخه كل الأدب، ويطيعه فيما أمر ونهى، ويكن له الاحترام والتعظيم.

قال محيي الدين بن عربي في أول الباب الواحد والثمانين بعد المائة من كتاب "الفتوحات المكية":
ما حرمة الشيخ إلا حرمة الله
فقم بها أدبا لله باللـــه
هم الأدلاء والقربى تؤيدهـم
على الدلالة تأييدا على اللـه
كالأنبياء تراهم في محاربهم
لا يسألون من الله سوى الله
فإن بدا منهم حال تولههم
عن الشريعة فاتركهـم مع الله!!

وقال أبو حامد الغزالي: "فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلي سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لامحالة، فمن سلك سبيل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها، فإنها تجف على القرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر. فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد... ، وليعلم أن نفعه في خطئه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب، فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق وهو أربعة أمور: الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر."[1]
ويقول محمد الرفاعي الصيادي في كتابه "قلادة الجواهر": " ومن آداب المريد اللازمة أولا: حفظ قلب شيخه، ومراعاته في الغيبة والحضور... والتواضع له ولذريته وأقاربه، وثبوت القدم على خدمته، وأوامره كليها وجزئيها، وربط القلب به، واستحضار شخصه في قلبه في جميع المهمات، واستمداد همته، والفناء فيه، وأن يكون ملازما له لا يفتر عنه طرفة عين، ولا ينكر عليه ما ظهر منه من صفة عيب، فلربما يظهر من الشيخ ما لا يعلمه المريد"[2].

ثم إن المريد لا يتعلق قلبه بشيخ سوى شيخه، ويفرده بالتعظيم والتبجيل ويتخذه وحده قبلة وقدوة. قال عبد الوهاب الشعراني: "ومن شأنه أن لا يكون له إلا شيخ واحد، فلا يجعل له قط شيخين؛ لأن مبنى طريق القوم على التوحيد الخالص، وقد ذكر الشيخ محيي الدين في الباب الأحد والثمانين ومائة من "الفتوحات المكية" ما نصه: "اعلم أنه لا يجوز لمريد أن يتخذ إلا شيخا واحدا لأن ذلك أعون له في الطريق، وما رأينا مريدا قد أفلح على يد شيخين، فكما أنه لم يكن وجود العالم بين إلهين ولا المكلف بين رسولين ولا امرأة بين زوجين، فكذلك المريد لا يكون بين شيخين"[3].
وقال عبد المجيد بن محمد الخاني النقشبندي في كتابه " السعادة الأبدية": "اعلم أيها الأخ المؤمن أن الرابطة عبارة عند ربط القلب بالشيخ الكامل،... وحفظ صورته بالخيال ولو عند غيبته أو بعد وفاته، ولها صور؛ أهونها أن يتصور المريد صورة شيخه الكامل بين عينيه، ثم يتوجه إلى روحانيته في تلك الصورة، ولا يزال متوجها إليها بكليته حتى يحصل له الغيبة أو أثر الجذب... وهكذا يداوم على الرابطة حتى يفنى عن ذاته وصفاته في صورة الشيخ... فتربيه روحانية الشيخ بعد ذلك إلى أن توصله إلى الله تعالى، ولو كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، فبالرابطة يستفيض الأحياء من الأموات المتصرفين"[4].
لا شك أن القارئ الكريم قد فهم من خلال هذه النصوص جانبا مهما من جوانب العلاقة التي تربط المريد بشيخه الطرقي، والتي تبدأ بأصناف التأدب والاحترام وتنتهي بالغيبة والفناء في صورة شيخه التي لا تفارق خياله طرفة عين، ومن هنا لا يعجب المرء إذا سمع بمريد يستغيث بشيخه ويستنجده وهو غائب عنه أو قد ارتحل إلى الآخرة.
نقد مفهوم القدوة عند الصوفية:

قال العلامة أحمد بن تيمية:
" وخير الشيوخ الصالحين، وأولياء الله المتقين: أتبعهم له وأقربهم وأعرفهم بدينه وأطوعهم لأمره: كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وسائر التابعين بإحسان، وأما الحسب فلله وحده ولهذا قالوا (حسبنا الله ونعم الوكيل) ولم يقولوا ورسوله... فليس لأحد أن يدعو شيخا ميتا أو غائبا: لا من الأنبياء ولا غيرهم، فلا يقول لأحدهم: ياسيدي فلان أنا في حسبك أو في جوارك، ولا يقول بك أستغيث وبك أستجير"[5].
ثم إن أسلوب التلقي الذي ينتهجه المريد مع شيخه الطرقي، لا يخلو من عيوب معرفية وتربوية وأخطاء تعبدية وشرعية، ذلك أن هذه العلاقة تجعل المريد محصورا في دائرة مغلقة بحيث يكون الشيخ بمثابة النواة المركزية، والمريدون عبارة عن إلكترونات تحوم حولها، ومن ثم فإن المعارف والأفكار التي يكتسبها المريد يستمدها من روح شيخه وشخصيته؛ إما يقظة وإما مناما، فيتشكل عنده نمط فكري واحد ينتظم من خلاله وبواسطته تصوره الوجودي والكوني، وكذا حياته الاجتماعية والدينية. وهكذا تغدو عين الشيخ المصدر الوحيد للإلهامات والإشراقات المعرفية، وبما أن المريد ينظر إلى شيخه الطرقي بعين الرضا والمحبة والتقديس، فإن عقله عاجز عن إدراك ما يمكن أن يصدرعنه من أخطاء وهفوات، وكيف يصدر ذلك عن الشيخ الكامل والقطب الرباني صاحب الأحوال والمقامات ؟!!. فالدين هو ما يفهمه شيخه والعبادة هي التي يمارسها ويدعو إليها.

ومما له علاقة بأسلوب التلقي المشار إليه ما يتلقاه المريد عن شيخه من الأوراد التي بواسطتها يتقوى قلبه وتصبو نفسه نحو الترقي في الأحوال والمقامات، بيد أن هذا الترقي كثيرا ما يؤدي بصاحبه إلى الوقوع في الجذب أوالفناء، مما قد يدفع به إلى العزلة التامة عن المجتمع، وهذا ما لا يحصل للمسلم الذي يذكر الله كما أمر، وكما بين نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه، في سنته المطهرة. قال الفقيه أحمد بن تيمية: "وكذلك العباد: إذا تعبدوا بما شرع الله من الأقوال والأعمال ظاهرا وباطنا، وذاقوا طعم الكلم الطيب والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية والمقامات العلية والنتائج العظيمة، ما يغنيهم عما قد حدث من نوعه كالتغبير ونحوه من السماعات المبتدعة الصارفة عن سماع القرآن، وأنواع من الأذكار والأوراد لفقها بعض الناس"[6]

وقال الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي:
" إن اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا. أما أولا فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي، لأنه مضاد لها. وأما ثانيا فإنه إذا اتبع واعتيد ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به، حيى يسري معها في أعمالها، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج. فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له، وإذا صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه، فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة، ودليل التجربة حاكم هنا.
وأما ثالثا، فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم، وانفتاح مغاليق العلوم. وربما أكرم ببعض الكرامات، أو وُضِع له القبول في الأرض فانحاش الناس إليه، وحلقوا عليه، وانتفعوا به، وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم..."[7]
لاحظ معي أيها القارئ اللبيب كيف نبه المحقق الأصولي أبو إسحاق على هذه المسألة الدقيقة، وبين فيها أن اتباع الهوى يجر المسلم إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود. فالشيخ الطرقي الذي وضع أورادا وصيغا للذكر على طريقة غير طريقة الشرع الحكيم وعلى منهج لا عهد لأصحابه والتابعين به، يكون قد ابتدع في أمر تعبدي وقفي لا مجال فيه للاجتهاد أو إبداء الرأي، وإن بدا له أن هذه الأوراد والأذكار تدور في فلك ما هو محمود ومحبب إلى الله سبحانه. وهذا باب من الأبواب التي سلكها كثير من السالكين والعباد فزلت فيها أقدامهم

بين شيخ التربية وشيخ العلم والتعليم


بعد هذا الكلام الموجز حول مفهوم القدوة عند الشيخ الطرقي، وعن أسلوب التلقي المعتمد بين المريد وشيخه، وعن طبيعة الأوراد والأذكار التي يضعها شيوخ الطرق الصوفية، وماذا قال في شأنها بعض العلماء والفقهاء. . أنتقل إلى مناقشة مفهوم الشيخ الطرقي باعتباره شيخ تربية. وهل يتوجب على المسلم المتعلم أن يتخذ شيخا من شيوخ التربية يسلك به طريقة معينة في العبادة وتزكية النفس، أم يقتصر على شيوخ العلم والتعليم ويتفقه على أيديهم ؟.
ليس مثلي من يجيب عن هذا السؤال أو يحسم فيه، ولكني "أعطي القوس باريها" كما قال الشاعر:
يا باري القوس بريا ليس تحسنه
لا تفسِدَنْها وأعط القوس باريها
أقول وبالله التوفيق: ذكر عبد الفتاح أبو غدة في هامش من هوامش تحقيقه لكتاب "رسالة المسترشدين" لأبي عبد الله الحارث المحاسبي، ما نصه:

وقد كتب الإمام الفقيه الأصولي المحدث النظار أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الغرناطي، صاحب كتاب "الموافقات" و"الاعتصام" وغيرهما من الكتب النفيسة الباهرة، المتوفى سنة 790، من غرناطة قاعدة الأندلس، إلى شيخ الصوفية في عصره أبي عبد الله محمد بن عباد النفزي، خطيب جامع القرويين في مدينة فاس، المتوفى سنة 792 رحمهما الله تعالى.
كتب إليه يسأله عن مسألة وقعت في غرناطة، واختلفت فيها أنظار العلماء، وكثر فيها القيل والقال، وهي: هل على السالك إلى الله تعالى أن يتخذ – لزاما- شيخ طريقة وتربية يسلك على يديه؟ أم يسوغ له أن يكون سلوكه إلى الله تعالى من طريق التعلم والتلقي من أهل العلم دون أن يكون له شيخ طريقة؟.

فكتب إليه الشيخ ابن عباد رحمه الله تعالى كتابة العالم المنصف المخلص، فقال له ما خلاصته: كما في كتابه "الرسائل الصغرى ص 106 وما بعدها وص 125 وما بعدها: "الشيخ المرجوع إليه السلوك ينقسم إلى قسمين: شيخ تعليم وتربية، وشيخ تعليم بلا تربية.
فشيخ التربية ليس ضروريا لكل سالك، وإنما يحتاج إليه من فيه بلادة ذهن واستعصاء نفس. وأما من كان وافر العقل منقاد النفس، فليس بلازم في حقه، وتقيده به من باب الأولى. وأما شيخ التعليم فهو لازم لكل سالك.
أما كون شيخ التربية لازما لمن ذكرناه من السالكين فظاهر، لأن حجب أنفسهم كثيفة جدا، ولا يستقل برفعها وإماطتها إلا الشيخ المربي، وهم بمنزلة من به علل مزمنة، وأدواء معضلة من مرض الأبدان، فإنهم لا محالة يحتاجون إلى طبيب ماهر يعالج عللهم بالأدوية القاهرة.
وأما عدم لزوم الشيخ المربي لمن كان وافر العقل منقاد النفس، فلأن وفور عقله وانقياد نفسه يغنيانه عنه، فيستقيم له من العمل بما يلقيه إليه شيخ التعليم ما لا يستقيم لغيره. وهو واصل بإذن الله تعالى، ولا يخاف عليه ضرر يقع له في طريق السلوك إذا قصده من وجهه، وأتاه من بابه.
واعتماد شيخ التربية هو طريق الأئمة المتأخرين من الصوفية، واعتماد شيخ التعليم هو طريق الأوائل منهم. ويظهر هذا من كتب كثير من مصنفيهم، كالحارث المحاسبي، وأبي طالب المكي، وغيرهما، من قبل أنهم لم ينصوا على شيخ التربية في كتبهم على الوجه الذي ذكره أئمة المتأخرين، مع أنهم ذكروا أصول علوم القوم وفروعها، وسوابقها ولواحقها، لا سيما الشيخ أبو طالب، فعدم ذكرهم له دليل على عدم شرطيته ولزومه في طريق السلوك.
وهذه هي الطريقة السابلة – أي المسلوكة- التي انتهجتها أكثر السالكين، أشبه بحال السلف الأقدمين، إذ لم ينقل عنهم أنهم اتخذوا شيوخ التربية، وتقيدوا بهم والتزموا معهم ما يلتزمه التلامذة مع الشيوخ المربين، وإنما كان حالهم اقتباس العلوم، واستصلاح الأحوال بطريق الصحبة والمؤاخاة بعضهم لبعض. ويحصل لهم بسبب التلاقي والتزاور مزيد عظيم يجدون أثره في بواطنهم وظواهرهم، ولذلك جالوا في البلاد، وقصدوا إلى لقاء الأولياء والعلماء والعباد"[8].

يستفاد من جواب محمد بن عباد النفزي شيخ الصوفية في عصره، أن شيخ التعليم هو المعول عليه في تحصيل العلوم والمعارف وهو قبلة كل سالك يسلك سبيل العلم والاستقامة ويريد التزود للدار الآخرة. والأحاديث النبوية في طلب العلم وكتبه وتحصيله وارتياد مجاله كثيرة جدا كما أن علماء الأمة وفقهاءها كتبوا في هذا الموضوع رسائل ومصنفات عديدة، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار في أحاديثه إلى قدر العالم وأهميته وعلو مرتبته، وكونه أفضل من العابد، لأنه يفقه الناس ويعلمهم أمور دينهم ودنياهم. وإذا استقرأنا هذه الأحاديث المتعلقة بالعلم والعلماء لا نجد فيها ذكرا لشيخ التربية أو الطريقة، لأن العلماء الأتقياء الربانيين المشار إليهم في الأحاديث النبوية هم أولى الناس بتربية السالكين المتعلمين، فهم يقذفون في قلوب المتعلمين علوم الكتاب والسنة وغيرها من العلوم، مصحوبة بالخشية والتواضع واستحضار عظمة الله سبحانه، إلى غير ذلك من المعاني الروحية والإيمانية التي تنور قلوب أولئك المتعلمين، فيتعلمون العلوم والمعارف كما يتعلمون مبادئ التربية، والاستقامة، والأخلاق الحسنة، ومحبة الله ورسوله. لهذا جاء في نص الجواب:" وهذه هي الطريقة السابلة أي المسلوكة التي انتهجها أكثر السالكين، وهي أشبه بحال السلف الأقدمين، إذ لم ينقل عنهم أنهم اتخذوا شيوخ التربية وتقيدوا بهم، وإنما كان حالهم اقتباس العلوم استصلاح الأحوال بطريقة الصحبة والمؤاخاة بعضهم لبعض " وفي قوله رحمه الله "اعتماد شيخ التربية هو طريقة الأئمة المتأخرين من الصوفية، واعتماد شيخ التعليم هو طريق الأوائل منهم يذكرنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم "[9]. فالأولى اعتماد شيخ التعليم لأنه الأصل، أما شيخ التربية فلم يكن له ذكر في القرون الأولى وإنما ظهر في القرون المتأخرة بسبب استشراء داء البلادة وتكاثر أصحاب الحجب والعلل النفسية، وأمراض القلوب والغفلة. ولا يفوتني أن أنوه بالنزاهة العلمية، والموضوعية التامة لهذا العالم الجليل محمد بن عباد النفزي رحمه الله، حيث لم تمنعه مشيخته الصوفية من ترجيح كفة شيخ التعليم، والانتصار للعلم والفقه، ومنح الأولوية والأسبقية لهما، في حين جعل دائرة شيخ التربية أو شيخ الطريقة ضعيفة جدا، لا تضم إلا "من فيه بلادة ذهن واستقصاء نفس".
فتأمل معي أيها القارئ الفطن، واستعمل ذهنك الثاقب، وانظر كيف كان علماء القرون الماضية من أصحاب الذوق الصوفي النقي يفهمون التصوف، ويقيدونه بالشريعة، ويضبطون قواعده بضوابط الكتاب والسنة، حتى تذوب ماهية التصوف في ماهية الإسلام، وتتلاشى علامات التمييز، ويبقى الحق هو ما جاء به القرآن وكلام الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. لكن خلف من بعدهم خلف انحرفوا عن هذا النهج القويم، وجعلوا شيخ التربية أو شيخ الطريقة أولى من شيخ التعليم، بل اعتبروا تحصيل العلوم سببا في حرمان النفس من التزكية والاستقامة والترقي في مدارج الإيمان !!  أو مانعا يحول دون الوصول إلى عالم الأذواق والحقائق الروحية والمعارف الكشفية والإلهامية !!، ناهيك عن الاعتقادات الفاسدة الضالة، المتعلقة بذوات هؤلاء الشيوخ، وكراماتهم وتصرفاتهم في النفوس والعوالم !!
ويقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في معرض الحديث عن شيخ التربية أو الطريقة: "ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة به إلى ذلك. ولا يستحب له ذلك، بل يكره له. وأما إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك، مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه، لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم، أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه، فإنه يفعل الأصلح لدينه. وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده"[10].
بعد أن أشار شيخ الإسلام أحمد بن تيمية إلى أن السالك ملتمس الهدى لا يلزمه "الانتساب إلى شيخ" ويقصد بالشيخ شيخ التربية أو الطريقة، بل "لا حاجة به إلى ذلك"... نبه في آخر كلامه على مسألة التفريط، إذ قال: " وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه"، وإلا فهو طلب الهدى على وجهه لوجده".

وهذا ما يلاحظ في عصرنا، إذ تجد معظم المريدين الذين يلتفون حول شيخ من شيوخ الطريقة، قد فرطوا في تحصيل العلوم والتفقه في الدين، واستثقلوا ذلك لما فيه من العناء والمشقة، واستوعروا طريق العلم، وقالوا نحن ضعفاء ولن يصلح أحوالنا إلا شيخ طريقة صوفية، ونسوا أن أول ما أمر به الله تعالى القراءة وطلب العلم، حيث يقول جل وعلا في سورة العلق: "اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم".
أي أنه أوجب علينا القراءة، وتحصيل العلم، وتدبر القرآن، وفي ذلك حث على إعمال العقل، وتحريك آليات الذهن وتفعيلها، وتفجير الطاقات الروحية الكامنة في القلب بواسطة التفكير والتأمل والاستدلال، مع الاسترشاد بالوحي كتابا وسنة، والجلوس مع أولي العلم من العلماء والفقهاء الربانيين.
أما الارتماء في أحضان شيخ طرقي، والاعتماد عليه وحده في عبادة الله وإصلاح النفس وتزكيتها وإبطال العمل بمقتضيات "اقرأ باسم ربك"، وما يتبع ذلك من تدبر وتأمل وتحصيل وإرادة، واستغلال لآليات ومناهج المعرفة، وربط ذلك كله بفقه الواقع ووظيفة الاستخلاف، فإنه تفريط ما بعده تفريط، وتقصير في القيام بواجب تحصيل العلم والمعرفة، ويكون السالك بذلك قد طلب الهدى على غير وجهه، إذ كما قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية "لو طلب الهدى على وجهه لوجده".
موقف الإمام الشوكاني:
وأخيرا أختم هذا الموضوع بما ختم به الإمام محمد بن علي الشوكاني في كتابه "أدب الطلب ومنتهى الأرب"، وهو كتاب أنصح طلاب العلم بقراءته لما يحويه من موضوعات نفيسة متعلقة بمنهجية تحصيل العلوم الإسلامية، ودور العلماء في النصح والتوجيه ومحاربة الجهل والتقليد والتعصب... .
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله وهو يتحدث عن "ابتلاء الإسلام بالمذاهب وتقديس الأموات": "... ويلتحق بالأمرين المذكورين أمر ثالث: وإن لم تكن مفسدته كمفسدتهما، ولا شموله كشمولهما، وهو ما صارت عليه هذه الطائفة المدعوة بالمتصوفة، فقد كان أول هذا الأمر، يطلق هذا الاسم على من بلغ في الزهد والعبادة إلى أعلى مبلغ، ومشى على هدي الشريعة المطهرة، وأعرض عن الدنيا وصد عن زينتها، ولم يغتر ببهجتها، ثم حدث أقوام جعلوا هذا الأمر طريقا إلى الدنيا، ومدرجا إلى التلاعب بأحكام الشرع، ومسلكا إلى أبواب اللهو والخلاعة، ثم جعلوا لهم شيخا يعلمهم كيفية السلوك، فمنهم من يكون مقصده صالحا وطريقته حسنة، فيلقن أتباعه كلمات تباعدهم من الدنيا وتقربهم من الآخرة، وينقلهم من رتبة إلى رتبة، على أعراف يتعارفوها، ولكنه لا يخلو غالب ذلك من مخالفة للشرع وخروج عن كثير من آدابه. والخير كل الخير في الكتاب والسنة، فما خرج عن ذلك فلا خير فيه، وإن جاءنا أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة، وأتقاهم لله تعالى وأخشاهم له في الظاهر فإنه لا زهد لمن لم يمش على الهدي النبوي، ولا تقوى ولا خشية لمن لم يسلك الصراط المستقيم. فإن الأمور لا تكون طاعات بالتعب فيها والنصب وإيقاعها على أبلغ الوجوه. بل إنما تكون طاعات خالصة محضة مباركة نافعة لموافقة الشرع، والمشي على الطريقة المحمدية.

ولا أنكر أن في هذه الطائفة من قد بلغ في تهذيب نفسه وغسلها من الطواغيت الباطنة والأصنام المستورة عن الناس، كالحسد والكبر والعجب والرياء ومحبة الثناء والشرف والمال والجاه مبلغا عظيما، وارتقى مرتقا جسيما، ولكني أكره له أن يتداوى بغير الكتاب والسنة، وأن يتطبب بغير الطب الذي اختاره الله لعباده، فإن في القوارع القرآنية/ والزاجر المصطفوية، ما يغسل كل قذر، ويدحض كل درن، ويدمغ كل شبهة، ويدفع كل عارض من عوارض السوء. فأنا أحب لكل عليل في الدين أن يتداوى بهذا الدواء، فيعكف على تلاوة كتاب الله متدبرا له متفهما لمعانيه، باحثا عن مشكلاته، سائلا عن معضلاته ويديم النظر في كتب السنة المعتبرة عند أهل الإسلام كالأمهات الست وما يلحق بها. ويستكثر من مطالعة السيرة النبوية، ويتدبر ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره، ويتفكر في أخلاقه وشمائله، وهديه وسمته، وما كان عليه أصحابه وكيف كان هديهم في عباداتهم ومعاملاتهم. فإنه إذا تداوى بهذا الدواء ولاحظته العناية الربانية، وجذبته الهداية الإلهية، فاز بكل خير مع ما له من الأجر الكثير، والثواب الكبير، في مباشرة هذه الأسباب وإذا حال بينه وبين الانتفاع بهذه الأمور حائل، ومنعه من الظفر بما يترتب عليها مانع، فقد نال بتلك الأسباب التي باشرها أجرا عظيما، لأنه طلب الخير من معدنه، ورام نيل الرشد من موطنه، فكان له في تلك الأشغال من الأجر ما لطلبة علم الشرع. لأنه قد جهد نفسه في الأسباب، ولم يفتح له الباب. وبعد هذا كله فلست أجهل أن في رجال هذه الطائفة المسماة بالصوفية من جمع الله له بين الملازمة لهذه الشريعة المطهرة والمشي على الطريقة المحمدية والصراط الإسلامي، مع كونه قد صار من تصفية باطنه من كدورات الكبر والعجب والحسد والرياء ونحوها بمحل يتقاصر عنه غيره، ويعجز عنه سواه، ولكني في هذا المصنف بسبب الإرشاد إلى العمل بالكتاب والسنة، والتنفير عما عداهما كائنا ما كان. فلست أحب لمن أراد القرب إلى الله والفوز بما لديه والظفر بما عنده، أن يتسبب إلى ذلك بسبب خارج عنهما من رياضة أو مجاهدة أو خلوة أو مراقبة، أو يأخذ عن شيخ من شيوخ الطريقة الصوفية شيئا من الاصطلاحات الموصلة إلى الله عندهم، بل يطلب علم الكتاب والسنة، ويأخذهما عن العلماء المتقنين لهما المؤثرين لهما على غيرهما المتجنبين لعلم الرأي وما يوصل إليه، النافرين عن التقليد وما يحمل عليه، فإنه إذا فعل ذلك سلك مسلك النبوة، وظفر بهدي الصحابة، وسلم من البدع كائنة ما كانت، فعند ذلك يحمد مسراه، ويشكر مسعاه، ويفوز بخير أولاه وأخراه."

لقد أحسن الإمام محمد بن علي الشوكاني الكلام عندما تعرض لمسألة الموازنة بين سلوك المتصوفة وسلوك غيرهم ممن يتقيد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الصحابة والتابعين، وأثنى على أهل الطائفة الأولى قائلا: " ولا أنكر أن في هذه الطائفة من قد بلغ في تهذيب نفسه وغسلها من الطواغيت الباطنية... مبلغا عظيما"، أو قوله " فلست أجهل أن في هذه الطائفة المسماة بالصوفية من قد جمع الله له بين الملازمة لهذه الشريعة المظهرة... . ." لكنه عقب قائلا: "فلست أحب لمن أراد القرب إلى الله والفوز بما لديه والظفر بما عنده أن... . . من رياضة أو خلوة... . . أو يأخذ عن شيخ من شيوخ الطرق الصوفية شيئا من الاصطلاحات الموصلة إلى الله عندهم... بل بطلب علم الكتاب والسنة..."
كأني بهذا العالم القدوة يعض بنواجذه على سنة نبيه، وهو يرغب الناس في طلب الهدي من الكتاب والسنة والإعراض عما سواهما من الطرق التي قد تفضي بسالكيها إلى ما لا يحمد عقباه، لقد كان هذا العالم رحمه الله للعلم مجمعا، وللدين مفزعا، وعلما في علمه وزمانه.
وبعد، أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون القارئ اللبيب ذي الرأي الثاقب قد انقدح في قلبه، واستقر في عقله، أن القدوة المثلى لا تلتمس في شيوخ الطرق الصوفية، وإنما تطلب من معدنها الجوهري وعينها الفياضة: محمد صلوات الله وسلامه عليه، وصحابته ومن على أثرهم من العلماء الربانيين إلى يوم الدين.
لكن قد يقول قائل إن العالم الرباني غدا كالكبريت الأحمر، أو دونه بيض الأنوق، فأنى لي بمن سيأخذ بيدي ويقيني المهالك؟ أقول له: لا يكون هذا الأمر مسوغا لك أن تتخذ شيخا طرقيا، يرشدك ويقيك المهالك، لأننا معشر المسلمين أمة "اقرأ"، إن فقدنا العلماء فلن نفقد القرآن لأنه محفوظ، ولن نفقد السنة لأنها محفوظة أيضا حسا ومعنى. ويستحيل أن يخلو زمان من وجود عالم رباني؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"؛ قال محمد بن إسماعيل البخاري: "وهم أهل العلم"[11] ثم إننا لا نقدس الشيوخ الطرقيين ولا شيوخ العلم، بل لو افترضنا خلو قرية أو مدينة من عالم رباني يسترشد به الناس، فإنه لن يكون ذلك مانعا من معرفة الحق والوصول إلى الله سبحانه وتعالى، لأن كتاب الله موجود والسنة مسطرة بين أيدينا. وهذا ما أشار إليه عالمنا النحرير الشوكاني بقوله: " فأنا أحب لكل عليل في الدين أن يتداوى بهذا الدواء فيعكف على تلاوة كتاب الله متدبرا متفهما... إلى... فاز بكل خير".

ثم إن وجود الشيخ الطرقي أو العالم الرباني ليس شرطا في نجاتنا، أي أن الفوز بالجنة ليس متوقفا بالضرورة عليهما، وما أكثر المسلمين الذين شهد لهم الناس بالصلاح والاستقامة، مع أنهم لم يلازموا شيوخ الطرق ولا شيوخ العلم.
إن المنهج الصحيح لضبط السلوك وتفجير الطاقات العقلية والروحية، وتسيير السبل لتحقيق الاستخلاف، هو منهج الكتاب والسنة. لكن قوما – غفر الله لهم – آثروا شخصية الشيخ الطرقي على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يقولن قائل إنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر مما يحبون شيوخهم. . هذا مستحيل فلا يمكن لشخصين أن يتغلغلا في قلب واحد. قال تعالى" ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه"[12].
فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم حبا ملك شغاف قلبه، لا يستطيع حب غيره بنفس القوة. وكذلك من أحب شيخه وربط قلبه به، وحفظ صورته في خياله، وكان ملازما له- حيا أو ميتا- لا يفتر عنه طرفة عين، يصعب عليه أن يتوجه إلى روح نبيه صلى الله عليه وسلم بنفس الروح ويحبه بالقوة نفسها.

وأخيرا شتان بين من يستلهم روح النبي صلى الله عليه وسلم وشخصيته ويكثر من ذكره والصلاة عليه، ويقتفي أثره ويهتدي بهديه هدي الفطرة، وبين من يستلهم روح شيخه الطرقي وشخصيته، ويثني عليه ويمدحه ويصحبه في خياله نوما ويقظة. وشتان بين شخصية رسالية تبني رجال الدنيا والآخرة، وتؤسس أمة الاستخلاف، وشخصية طرقية مجالها الطريقة والزاوية والأوراد والطقوس، وغايتها استغفال واستعباد المريدين والأتباع.
د. عبد الله الشارف
مجلة النور تطوان/المغرب عدد 1428-2007
[1] -أبو حامد الغزالي؛ "إحياء علوم الدين"، ج 3، ص112-113، دار الحديث القاهرة، 1419-1998.
[2] - محمد أبو الهدى الصيادي؛ "قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر"، ص 278، ط. الأولى، 1400-1980، بيروت.
[3] - عبد الوهاب الشعراني؛ "الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية"، ج1، ص40، المكتبة العلمية، بيروت، 1412-1992.
[4] - عبد المجيد الخاني الخالدي النقشبندي؛ "السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية"، ص. 22-23، إسطانبول 1401-1981.
[5] - أحمد بن تيمية؛ "فتاوى ابن تيمية"، ج 11، ص 498-499، د. ت، د. ط. .
[6] - أحمد بن تيمية؛ "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص 282، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرباط، 1419.
[7]- أبو إسحاق الشاطبي؛ "الموافقات في أصول الشريعة"، المجلد 1، الجزء 2، ص 133-134، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت. .
[8] - عبد الفتاح أبو غدة؛ تحقيق "رسالة المسترشدين"، ص 39-40، دار السلام، ط. 5، 1409-1988.
[9] - حديث صحيح رواه البخاري.
[10] - أحمد بن تيمية؛ المرجع السابق، ص 514.
[11] -  انظر "فتح الباري، شرح صحيح البخاري"؛ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي..." من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ج 15 ص 9087، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، ط. 1 1420-2000
[12] - سورة الأحزاب، آية 4.
ا.








إرسال تعليق

0 تعليقات