قراءة في مفاهيم نفسية وتربوية مستوردة

ليس ثم شيء تحرس عليه الدول الغربية في علاقتها بغيرها من الأمم أقوى من حرسها على استمرار نفوذها السياسي وتأثيرها الثقافي والفكري. ولعل مفهوم التثاقف من أدق المفاهيم تعبيرا عن هذه الأهداف الغربية وتجسيدا لها.
ويعني التثاقف مجموع التحولات التي تحدث في النماذج الثقافية الأصلية عندما تدخل مجموعات من الأفراد ينتمون إلى ثقافات مختلفة في اتصال مباشر. أو بعبارة أخرى يعني التثاقف التغير الثقافي في تلك الظواهر التي تنشأ حين تدخل "جماعات" من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر ومستمر،مما يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى هاتين الجماعتين أو فيهما معا.
وإذا ما كانت عملية التثاقف في الحضارات والثقافات الماضية غالبا ما تحدث وتتم بطريقة طبيعية وتلقائية، فإنها في عصرنا الحالي تتسم بنوع من القوة والإكراه. بحيث نجد أن الدول الغربية المسيطرة تستعمل كل طاقاتها ونفوذها لفرض ثقافاتها ولغاتها على الشعوب التي رزحت بالأمس تحت نير الاستعمار، وتحاول القضاء على ثقافات هذه الشعوب وطمس معالمها والحيلولة دون تمسك أفرادها بأصالتهم وهويتهم.
ولقد كان لسيطرة مناهج التعليم الأجنبي على العالم الإسلامي أثر بعيد في تزييف مفهوم التربية وإحلال مفهوم غربي وافد يستهدف إخراج الأجيال المسلمة من قيمتها ومفاهيمها ودفعها نجد منهج للتعليم خال من الحصانة الأخلاقية  والحماية الروحية، وقد صور هذا المعنى المستشرق هاملتون جب في كتاب " وجهة الإسلام" حيث قال: لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم أثرا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد.

I – مفاهيـم نفسيـة:
1)                مفهوم الحتمية:
ما زالت العلوم الإنسانية إلى الآن تعاني من ألم الشعور بالنقص أمام العلوم الطبيعية أو التجريبية البحتة، والسبب في ذلك يرجع إلى كون العلوم الطبيعية قطعت أشواطا بعيدة في ميدان التجريب والوصول إلى حقائق علمية هامة لا يرقى إليها الشك؛ في حين أن مجهودات وبحوث ونتائج العلوم الإنسانية ظلت متواضعة ودون المستوى العلمي المطلوب، لأنها كما يقال علوم ذاتية وليست موضوعية، ولكونها تخضع لعقلية الدارس أو الباحث و ميولاته وإيديولوجيته، كما أن موضوع العلوم الإنسانية الذي هو الإنسان يتسم بالتغير وبخصائص جوهرية تختلف عن خصائص موضوع العلوم الطبيعية.
ولكي تتغلب على التأخير  الناتج عن طبيعة موضوعها عملت العلوم الإنسانية على تبني مناهج البحث المتداولة في العلوم الطبيعية والتجريبية، الأمر الذي كانت له خطورة على موضوع الدراسة الإنسانية. وهكذا أقحمت مفاهيم علمية بحتة،كمفهوم الحتمية في مناهج العلوم الإنسانية.
إن الحتمية التي تعني أن نفس الشروط تؤدي إلى نفس النتائج، يسهل ملاحظتها والتأكد من فاعليتها عندما نكون إزاء ظواهر طبيعية أو أشياء مادية،أما عندما يتعلق الأمر بالظواهر والحالات النفسية فإن تطبيق مفهوم الحتمية كثيرا ما يتعذر، ذلك لأن وقوع سبب معين لا يؤدي دائما إلى حدوث النتيجة أو الحالة النفسية في مجال النفس.
إن الاعتقاد بصحة مبدأ الحتمية في المجال النفسي تنبني عليه قضايا تتعارض من جهة مع الشخصية السوية والمريدة، ومن جهة أخرى مع قواعد العقيدة والإيمان؛ فالإنسان الذي يعجز عن مواجهة مشاكل نفسية معينة – مع وجود إمكانية التغلب عليها—ويستسلم للأنا هو إنسان يؤمن بطريقة أو أخرى بمبدئ الحتمية في المجال النفسي، ويوهم نفسه بأن الأزمة النفسية التي حلت به لم يكن من الممكن تجنبها، وبالتالي يصبح وكأنه آلة عديمة الحرية خاضعة لقوى نفسية خفية.
إن الاعتقاد بأن العوامل النفسية تتحكم في شخصية الإنسان وذاته وأن الإنسان مقسور في إطار من الجبر الذي تفرضه هذه العوامل على تصرفاته، يتعارض ويتنافى مع مفهوم الإيمان بالله وإرادة الفرد والالتزام الأخلاقي كما يتنافى مع الفطرة البشرية.

2) مفهوم اللاشعور:
بالرغم من أن نظرية فرويد عن بنية الشخصية قد خضعت لدراسات نقدية عديدة في أوربا وأمريكا، فإن كتب علم النفس وعلم النفس التربوي المتداولة عندنا ما زالت تتحدث عنها وكأنها حديثة العهد بالصياغة والإبداع. لكن هذا لا يدعو للعجب والاستغراب ما دمنا جميعا نعلم أن العلوم والتكنولوجيا المستوردة تأخذ دائما زمنا طويلا كي تصل إلينا في حين أن ما يتعلق بالموضات أو الأفلام فإنها تحل بديارنا وقد عبرت المسافات كالبرق الخاطف وما زالت غضة طرية جاهزة للاستهلاك.
يرى فرويد أن هناك نوعين من الدوافع اللاشعورية: مؤقتة ودائمة؛ فالدوافع اللاشعورية المؤقتة هي التي لا يشعر بها الفرد أثناء قيامه بالسلوك، لكنه يستطيع أن يحدد طبيعتها إن أخذ يتأمل في سلوكه. أما الدوافع اللاشعورية الدائمة فهي الدوافع القديمة أو المكبوتة والتي قد لا يمكن أن تصبح شعورية إلا بطريقة التحليل النفسي.
ثم إن الأصل في انتشار مفهوم اللاشعور يرجع إلى أن بعض أطباء النفس وعلى رأسهم فرويد لاحظوا أن هناك اضطرابات في الشخصية لا يمكن تفسيرها أو تأويلها إلا بافتراض عوامل نفسية لا شعورية لا يفطن المريض إلى وجودها، ومن ثم افترضوا جانبا خفيا في النفس أطلقوا عليه اسم الجانب اللاشعوري, وبين فرويد أن الدوافع اللاشعورية لا يتضح أثرها في اضطرابات الشخصية المريضة فقط، بل وفي السلوك العادي من خلال فلتات اللسان وزلات القلم وبعض أنواع النسيان إلى غير ذلك.
وبالرغم من أن مفهوم اللاشعور لا يعدو أن يكون فرضية من الفرضيات وأن انتقادات كثيرة وجهت إليه خصوصا من قبل المدرسة السلوكية النفسية في أمريكا التي وصفته بالمثالية وبكونه لا يصبر عن منطق الواقع، فإن كثيرا من الكتاب التربويين في العالم الإسلامي ما زالوا يتداولونه ويقحمونه في كتاباتهم النفسية والتربوية.
إن مفهوم اللاشعور من المفاهيم النفسية التي أفرزتها الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي تتصور الإنسان تصورا خاصا يتلاءم وينسجم مع معطياتها وأهدافها، ويمكن القول أن الضغوط الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ما يزال يمارسها المجتمع الصناعي التكنولوجي على الإنسان الغربي كانت السبب المباشر في تغيير شخصية ونفسية هذا الإنسان مما نتج عنه ظهور وافتراض مفاهيم نفسية تعبر عن الواقع النفسي المر المعقد الذي يعيشه الإنسان الغربي مع محاولة لفهم هذا الواقع وتبريره.
وبعبارة أخرى لما كانت ضغوط المجتمع الصناعي والتكنولوجي أقوى مما يتحمله الإنسان هناك، فقد هذا الإنسان جزءا من إرادته الشعورية وبدأ يعلل بعض سلوكه بنشاط وتصرف الجانب اللاشعوري المفترض والذي يكون بالنسبة له جزءا مهما من شخصيته ونفسيته.
إن هذا التحليل الوهمي ما هو إلا تعبير عن ضعف هذا الإنسان أمام المؤسسات الصناعية والتكنولوجية والإيديولوجية للمجتمع الغربي إننا إذا اعترفنا باللاشعور أو بدوافع لا يكون الإنسان منتبها إليها واعيا بها تحرك سلوكه دون علم منه، فإننا سوف نسقط جانبا من المسؤولية في الأفعال الإرادية الصادرة عن الشخص المسلم، وبالتالي سنعذر الأشخاص في كثير من تصرفاتهم كونها لا شعورية، وهذا ما لا يتطابق مع روح الشريعة.

3) مفهوم الجنس:
قال الدكتور إبراهيم وجيه في كتابه "علم النفس والشباب"[1] :" تبدأ معالم النمو الجنسي كما يراها المحللون النفسيون مع الطفل منذ الميلاد، فهناك مظاهر النشاط الجنسي نلاحظها على الأطفال منذ هذه السن المبكرة... ويمكن أن نميز بصفة عامة بين ثلاثة مراحل يمر بها النمو الجنسي عند الإنسان، وهي:
1)             مرحلة الشهوة الذاتية.
2)             المرحلة النرجسية.
3)             المرحلة الأوديبية أو الإلكترية".

يرى فرويد ومن يدور في فلكه أن الطفل يحس من الأيام الأولى بدبيب الحياة الجنسية في أوصاله وكيانه، ففي المرحلة الأولى أي مرحلة الشهوية الذاتية، حيث لا يدرك الطفل بعد مجال العالم الخارجي، يستخدم يديه في مداعبة أجزاء جسمه وفمه، فيشعر أثناء هذه المداعبة بلذة جنسية من طبيعة اللذة التي يشعر بها الكبار.
وعندما يصبح الطفل قادرا على إدراك ذاته وتمييزها عن أشياء العالم الخارجي، يلج المرحلة الثانية وهي مرحلة النرجسية حيث يتجه إلى ذاته فيتعشقها، ويتخذ منها موضوعا لتصريف طاقته الجنسية. وقد أخذت هذه المرحلة اسمها الذي أطلقه عليها فرويد من أسطورة إغريقية مفادها أن "نرجس" نظر إلى صورته في مياه بحيرة، فأعجب بنفسه إعجابا شديدا وهام بذاته حبا، فعاقبه الآلهة وحولته إلى الزهرة المعروفة بهذا الاسم.
ثم بعد ذلك يلتحق الطفل بالمرحلة الثالثة حيث يتعلق الولد الصغير بأمه والبنت الصغيرة بأبيها.
ويضيف الدكتور إبراهيم وجيه قائلا (ص: 78): " وبالتدريج يبدأ الولد في الاتجاه نحو الأم، وكذلك تبدأ البنت في الاتجاه نحو الأب. وهذه التطورات في العلاقة الجنسية التي تربط كلا من الولد والبنت بأحد الأبوين من الجنس المخالف، يترتب عليها نوع من الصراع ينتهي بما يسمى بالوقف الأوديبي، أو تكون عقدة أوديب بالنسبة للولد. أما البنت فينتهي عندها بنشأة عقدة ألكترا، وقد استنبطا فرويد فكرة أوديب من أسطورة إغريقية تدور حول " أوديب" الملك الذي حارب أباه وقتله، وتزوج أمه دون أن يعرف أنها أمه.
إن كثيرا من كتب علم النفس وعلم النفس التربوي المتداولة بين أيدينا حافلة بمثل هذه الترهات وهذه الأفكار المسمومة.
ثم إن مناخ المفاهيم النفسية يستمد استجاباته من تحديات معينة هي خلاصة تاريخ العلاقات الاجتماعية في مجتمعات أوربا والغرب، والتي استمدت مضامينها من جو الرهبانية وكراهية العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، حيث بالغت الكنيسة في فرض القيود على النشاط الحيوي للفرد.
هذا وإن فرضيات فرويد لم تكن موقع قبول من العاملين معه في حقل علم النفس، على العكس من ذلك كانت موضع المعارضة؛ فقد عارض يونج وآدلر نظرية فرويد في الجنس ورفضا رأيه في الغريزة الجنسية وفي الطفولة وفي عقدة أوديب. واعتقد آدلر أنه حافز تأكيد الذات وليس الدافع الجنسي هو القوة السائدة الإيجابية في الحياة.
لقد تركت المفاهيم النفسية المستوردة أثرا بعيدا في إثارة جو الشك والاضطراب والقلق والتمزق لأنها بدت وكأنها حقائق علمية، بينما لم ترد عن أنها نظريات ووجهات نظر مفكرين وفلاسفة لهم أهواؤهم ولهم تحديات مجتمعاتهم، ومن ورائه تحديات أخرى تقوم على اليهودية العالمية، ويستهدف بها زلزلة الأخلاق والأمن النفسي.

II – قضايا متعلقة بالتربية:

مقدمــة:
الخلفية الفلسفية للمفاهيم التربوية:
إن المطلع على آراء ونظريات أشهر الكتاب والمنظرين في ميدان التربية و البيداغوجيا من الغربيين خلال القرن التاسع عشر والعشرين يلاحظ أن أفكارهم متقاربة، وقلما تتعارض لأنها تنهل من معين واحد هو معين المدنية الغربية، ومن هنا جسدت تلك الأفكار منطلقات هذه المدنية وأهدافها.
وتعتبر القطيعة الروحية أي الثورة ضد الدين ونبذ كل ماله علاقة بالتصور الديني والأخلاق والقيم الروحية الأرضية الفكرية والفلسفية التي انطلق منها هؤلاء الكتاب، لأنهم اعتبروا الدين عاملا من عوامل التخلف والظلام. وترتبت على هذه المسلمة بالنسبة لهم مسلمة ثانية ترى في الحياة المادية الدنيوية الحياة الحقيقية الوحيدة، إلى غير ذلك من المبادئ والمسلمات التي تقوم عليها الحضارة الغربية التي لا يتسع المجال لذكرها.
لقد كان من الطبيعي أن تنعكس فلسفة الحضارة الغربية وتصوراتها على كافة العلوم والفنون والكتابات الأدبية والتربوية؛ فعندما ندرس مثلا فكر الكاتب والفيلسوف الأمريكي وليام جيمس (1842-1910) نجده قائما على ما يسمى بالبرجماتية أي تقدير المبادئ والحقائق من خلال قيمتها العملية المنفعية، ونجده بالتالي قد دعا إلى اعتماد نتائج علم النفس التجريبي في مجال التربية وإلى توجيه الأطفال توجيها عمليا منفعيا في إطار المفهوم المادي للحياة الأمريكية.
وهناك كاتب وفيلسوف آخر اسمه جون ديوي الذي اشتهر أكثر من غيره في العصر الحديث بنظرياته التربوية، والذي أخذت توجيهاته مدارس ومراكز التوجيه التربوي في الدول الناطقة بالإنجليزية بالإضافة إلى الدول التي خضعت للاستعمار الإنجليزي كمصر والعراق والهند، ولقد أثنى عليه الدكتور فاخر عاقل في كتابه معالم التربية ووصفه بالمربي العظيم. ويحدثنا التاريخ المعاصر أن جون ديوي هذا كان من ألذ أعداء المسيحية في النصف الثاني من القرن 19، ولم يسلم بسبب موقفه المتطرف من انتقادات بعض المحافظين من رواد الكنيسة الكاثوليكية، لكن نظرا لهيمنة روح الحياة المادية والمنفعية في الغرب لقيت آراؤه التربوية العلمانية قبولا منقطع النظير.
دعا جون ديوي إلى جعل المدرسة صورة واقعية للحياة الاجتماعية، كما دعا إلى رفض كل ما يتعلق بالماضي من فكر أخلاقي أو عادات اجتماعية أو معتقدات دينية، وأن القيم يجب أن تستنبط من الحياة الواقعية، أي الحياة المادية المنفعية التي يمثل المجتمع الأمريكي – حيث عاش جون ديوي- أسمى نموذج لها.
إن هذا المسار المادي والنفعي للمفاهيم التربوية الحديثة والذي نلمس آثاره في حياتنا المعاصرة يشكل نتاجا نهائيا وتتويجا لمجهودات فكرية وفلسفية لفلاسفة وعلماء النهضة الأوربية التي انطلقت من إيطاليا في القرن الخامس عشر الميلادي، والتي من أقطابها بترارك وإراسم ثم مونتاني وفنلون مرورا بروسو وفولتير، قبل أن ينتقل الإرث التربوي إلى فرويد وجماعة من علماء النفس والبيداغوجيين المحدثين.
هؤلاء المفكرون والفلاسفة ابتداء من عصر النهضة كانوا يركزون على الإنسان انطلاقا من تصور أفقي في مقابل التصور العمودي له، ذلك التصور الذي يربط هذا المخلوق بخالقه، فكان من البديهي أن يصاغ الفكر التربوي في إطار هذا التصور الأفقي المنصب على الأرض والمادة وكل ما له منفعة عاجلة ومادية.

1) التركيز على الجسم والعقل وإهمال الروح والقلب:
لم تكن للطفل مكانة إنسانية في مجتمعات القرون الوسطى الأوربية، لأن الكنيسة البابوية عملت على تجهيل الأباء والأمهات وتهميش الأطفال. ولم يلتفت المسؤولون في أوربا إلى الطفل ولم يشرعوا في العناية به إلا ابتداء من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. ويحدثنا التاريخ المعاصر أن الأطفال والنساء قبيل ذلك العهد كانوا يستخدمون من قبل أرباب البورجوازية الصاعدة في المصانع والمناجم، مقابل أجور زهيدة، وفي ظل ظروف عملية قاسية. هذا الطفل المحروم المشرد سوف يصبح محط عناية ورعاية فيما بعد، وسوف يخضع لتوجيهات تربوية ونفسية متلائمة مع روح التقدم والحرية في الغرب.
لكن إذا كان المربون وعلماء النفس من الغربيين قد أبعدوا الجانب الديني والروحي من العملية التربوية لاقتناعهم بجمود الفكر الكنسي، واعتباره أحد الأسباب الرئيسية في الظلم والظلام، ما بال عدد كبير من المشتغلين بالتربية والبيداغوجية في بلداننا الإسلامية يهمشون العامل الديني عند صياغتهم للبرامج التربوية، وعند دراستهم وتنظيرهم للجانب التربوي والنفسي عند الطفل أو التلميذ؟ لماذا هذا التقليد الأعمى؟ هل الدين عندنا يهمش الطفل ولا يعنى به؟ هل الإسلام لم ينص على تربية الصغار وتوجيههم؟ كلا ثم كلا، ولكن صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ قال في حديث صحيح أخرجه مسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لا تبعتموهن، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن"[2].
وإذا راجعنا النتائج التي حصلت عليها البلاد الإسلامية في العقود الأخيرة عرفنا قوة أثر أسلوب التربية الحديثة وخطرها البعيد المدى في النكسات والهزائم التي مني بها العالم الإسلامي، وعرفنا مدى عجز هذا الأسلوب عن بناء الغرب المسلم والأسرة المسلمة، وذلك حين جردها من المفهوم الإسلامي للتربية والذي رسمه لها القرآن مترابطا في عناصره الربع. الجسم والروح والعقل والقلب.
2)             تراجع دور المدرس:
ومن المسائل الأساسية التي تركز عليها البيداغوجية الحديثة كونها تسعى دوما للانتفاض من قيمة ودور المعلم والأستاذ والإعلاء من شأن التلميذ. وفي هذا المنحى يقول الدكتور فاخر عاقل في "كتابه معالم التربية". "إن المعلم الحديث يلعب دور المهيء للمحيط، المنظم للخبرة، المساعد للطفل على تحديد أهدافه وغاياته، ولا يطالب هذا المعلم بالتدخل في نشاط الطفل إلا حين لا يكون من ذلك بد وإلا ليدل ويرشد ويوجه لا ليلقن ويعلم. وهكذا يكون عمل المعلم قد اتخذ شكل الإعانة على التعلم لا شكل التعليم والتلقين، وتكون المدرسة مكانا يتعلم فيه الطفل ولا يعلم"[3].
ويضيف فاخر عاقل في الفصل الأول من كتابه (ص31): "ولعل خير ما نختم به هذا القسم من حديثنا هذا، الإشارة إلى ما جاء به الفيلسوف المربي (جون ديوك) الذي كان له الفضل في القول بأن التربية هي الحياة".
لكن السؤال المطروح هو؛ ما هو تصور الحياة عند جون ديوي أي عند فيلسوف وكاتب أمريكي يعتبر مثالا للكاتب العلماني والمادي. وإذا كان فاخر عاقل وغيره في الكتاب التربويين والبيداغوجيين في بلداننا الإسلامية يقتدون بجون ديوي وأمثاله فإن ناشئتنا له تتربى وله تتعلم، لأن الفكر المستورد والدخيل لا يمكن أن يقوم بوظيفة الفكر الثابت والأصيل.

3)             تهميش دور البيت:
لما تمكنت مسألة القطيعة الروحية من عقول الأوربيين بعد الثورة على الكنيسة وعلى الدين بصفة عامة، وانقلب التفكير من صبغته العمودية إلى صبغته الأفقية كان من الضروري أن تختفي أو تتغير بعض الملامح والأدوار لبعض المؤسسات الاجتماعية في البلدان الأوربية.
وقد لا أعدو الحقيقة إذا قلت أن الأسرة الأوربية كانت أهم مؤسسة اجتماعية تأثرت بالانقلاب الفكري والاجتماعي الذي عرفته تلك البلدان خلال القرون المتأخرة، وشيئا فشيئا بدأ الجد والأب يفقدان مركزهما وثقلهما داخل الأسرة لأن الثقافة العلمانية الجديدة التي انتشرت في ربوع أوربا وأمريكا جردت الآباء والأمهات من ذلك الدور الاجتماعي المتمثل في تلقين الأبناء أسس وعناصر الثقافة والقيم السائدة، واستعاض الغرب عن دور المؤسسة الأسرية في التربية بمؤسسات تربوية جديدة كالحضانة والمدرسة ودور إصلاح المنحرفين إلى غير ذلك. ولا أظن أحدا يجهل خطورة المشاكل والصراعات التي تنجم بين الآباء والأبناء نتيجة لعزل الأبناء عن آبائهم وإخضاعهم لأساليب تربوية قائمة على فلسفة المادة والمنفعة، ومكرسة لأهداف وطموحات الطبقة المسيطرة من الرأسماليين.
وإذا كان تهميش دور البيت في العملية التربوية في الغرب قد تم نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية خاصة، فهل هناك ظروف وعوامل مماثلة في مجتمعاتنا الإسلامية تجعلنا نهمش دور البيت ونقلل من شأنه في العملية التربوية، أم هو مجرد تقليد واستيراد؟
لاشك أن عامل التقليد لا يمكن نفيه في هذا المجال. ولا أدل على أثر هذا العامل في عقول الكثير من الكتاب والمشرفين على عمليات التربية ونشاطات في البلدان الإسلامية، من كون الكتب والمجلات والنشرات الإذاعية وغير ذلك من وسائل الإعلام المهتمة بالتربية تكاد لا تستنير وتسترشد إلا بآخر ما توصل إليه الغرب في ميدان التربية والتعليم.
لقد كان للتربية في العالم الإسلامي نموذجان وهما الأدب والمدرس، ولما فقدا دورهما وسرت فكرة التقليد والاستيراد الفكري والثقافي في عقول المعلمين  والمتعلمين على السواء، نشأت أجيال لا تجد المثل الأعلى الذي تستطيع أن تنشئ نفسها في إطاره، أجيال هشة هامشية محدودة النظرة، يغريها البريق الخاطف والمغريات البراقة وتحول الأهواء بينها وبين فهم الخطورة التي تواجه أمتها، والمسؤولية المنوطة بأعناقها في سبيل مواجهة هذه التحديات.






[1] - ابراهيم وجيه: "علم النفس والشباب" ص 74، دار مكتبة الفكر، طرابلس، ليبيا 1974.
[2] - رواه مسلم في صحيحه.
[3] -فاخر عاقل: معالم التربية، ص 89، دار العلم للملايين، بيروت 1981، الطبعة الرابعة.

إرسال تعليق

0 تعليقات