في أدب الرقائق نداء ومحبة

بسم الله الرحمن الرحيم

ذات صباح بينما أنا جالس في غرفتي وقد أطلقت العنان لمخيلتي، إذا بي أطل من نافذة على عالمي الجنة والنار؛ ينشرح صدري تارة وينقبض أخرى، ويهيم قلبي لحظات ويطرب لانعكاس ألوان النعيم في مرآته، ثم يضيق ويتألم لورود ما يخيفه ويزعجه من صور العذاب وهول الجحيم ، حتى غدا باطني مسرحا لصراع عنيف بين النعيم والجحيم،والشقاوة والسعادة والطمأنينة والحيرة. وما هي إلا دقائق معدودة، حتى فوجئت بنداء ينبعث من صميم قلبي، وهاتف يهتف بي: إلى متى هذا النوم؟ إلى متى هذه الغفلة؟ ألا من يقظة توقظ عزمك، وتضيئ ما ادلهم من ليل حالك، وتذيب حجارة القسوة الجاثمة فوق قلبك . أما آن لهذا القلب أن يلين ويخشع؟ ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق)؟ ولهذه العين أن تبصر وتتبصر وتدمع؟ ما لهذا خلقت يا عبد الله؟ وما خلق الله شيئا عبثا أو سدى بل كل في فلك يسبحون وبكل لسان يسبحون، فأين لسانك؟ وأين قلبك؟ وأين قصدك؟ وما وجهتك؟.
هيهات هيهات، أتظن الأمر سهلا والوجود عدما كلا، فالأمر أعظم مما تتصور، والخطب أجل مما قد يخطر على بالك، والفضاء ضاق بما رحب، وعجلة الزمان أوشكت على التوقف، بعد أن أباد الأمم والقرون تعاقب الحركة والسكون ، وليل نهارك قد جن عليك ولما تعاين نجومه، أقم قيامتك قبل قيامها فهول القيامة أشد ما ينتظر والساعة أدهى وأمر. وليوقفنك رب العزة بين يديه وليسألنك سؤال عزيز مقتدر، وقتئذ تبلغ القلوب الحناجر وتفترس الندامة الصدور ويعض الظالم على يديه ولات حين مناص.
ياعبد الله أنت أكرم على الله من أن تسحرك الدنيا بظلها الزائل، أو تعبث بك الشياطين وتزج بك في حمأة الشهوات والضلالات، وإلهك ينتظر رجوعك وتوبتك ويفرح بذلك، أكثر من فرح أم برجوع ولدها المفقود.
ومرت الأيام، وشعاع ذلك الهاتف يزداد توقدا، وصوت النداء الباطني يزداد قوة وحدة، فعزمت على الخروج عن العادات والمألوفات، والاقتـداء بالتوابين الصالحين، ووطنت نفسي على ذلك كيف لا "والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق".
فلما استقرت في باطني بوارق اليقظة، وانزعج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، أخذت في أهبة السفر إلى الله لا ألوي على شيء، وعقدت عقدا جازما على المسير ومفارقة كل قاطع ومعوق، ومرافقة كل معين وموصل.
" قال الشاعر[1][1]:
فحــي على جنات عدن فإنهــــا
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعـود إلى أوطاننا ونسلـــم
ثم أعقب حال اليقظة والانتباه، شعور عميق بالذل والانكسار والخضوع، والافتقار للرب سبحانه وتعالى، يقول رب العزة: " يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد" [2][2]
فأدركت تمام الإدراك أن صلاحي وخلاصي وهداي وسعادتي، بيده جل وعلا، وأن هذا الخير وهذه اليقظة منه وحده، وأن رحمته بي اقتضت تذكري له وسياقتي إليه. فالتجأت إليه لجوء المضطر الذليل المستعطف، "ووضعت خذي على عتبة العبودية، ناظرا بقلبي إلى ربي ووليي نظر الذليل إلى العزيز الرحيم". ثم بعد ذلك أحسست بحياة الهمة والإرادة تسري في كياني سريان الدم في شرايين الجسد، وإنها لهمة عالية وإرادة صادقة، والحياة الطيبة لاتنال إلا بذلك. قال العلامة الفقيه محمد بن قيم الجوزية رحمه الله: " لما كان في القلب قوتان قوة العقل والتمييز وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين  القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق، ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملهــا في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به، وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث همام بالطبع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء: حارث وهمام" فالحارث الكاسب العامل، والهمام المريد. فإن النفس متحركة بالإرادة، وحركتها الإرادية متصورة لها، متميزة عندها، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وترده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولابد." [3][3]
ياعبد الله ، أول ما يلزمك معرفته الطريق الموصل إلى الله، طريق يبصرك بعيوبك ويرفع حجاب نفسك، ويحرق ظلمات الطبع وكدورات النفـس بأشعة البصيرة، حتى يقوم بقلبك شاهد من شواهد الآخرة، وتغدو كأنك تعاين بعض معالمها فتنجذب إليها بكليتك، ولن تظفر بذلك ما لم تعمـل على تجديد التوبة وتصحيحها،  وتسع جادا في القيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة. وكن على يقين أنك مهما اجتهدت في هذا الأمر وصدقت الله فيه، فستحظى بمحبة الرسول محمد (ص) وذلك بتعظيمك لشخصه، واتخاذه إماما ومعلما، وقد تستولي روحانيته على قلبك  فتغدو مشكاة النبوة مصدرا وسراجا لسلوكك وآدابك، بل وعينا تنهل منها معارفك وخواطرك،ولا تعجبن لهذا فالأمر أبين من فلق الصبح، إذ محبتك الصادقة لله ستفضي بك لا محالة إلى اتباع رسوله صلوات الله وسلامه عليه.أليس رب العزة يقول: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي"[4][4]
فطوبى لك يا عبد الله إن أنت بلغت هذه المنزلة، ولا تسل عما سينعم الله به عليك من العطايا والمنح والتي أجلها محبة كلامه وقرآنه وفهم رسالته وخطابه، وكذلك الترقي في فهم معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا ، مما سيزيدك تقربا وانجذابا إلى الله، فيستولي التعظيم والإجلال والمحبة والإنابة والخشية على قلبك، وتصبح محبا ومحبوبا قال رسول الله (ص) فيما يرويه عن رب العزة :"من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي  عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته   "[5][5]
ومضت أسابيع بل شهور وأنا على هذه الحال، أشعر بانجذاب قوي نحو الحق سبحانه وتعالى، وصرت حريصا على أداء الصلوات في وقتها، وكما شرعت في الاجتهاد في نوافل الطاعات وفي مطالعة كتب فقه العبادات. وتبين لي مع مرور الأيام بيان يقين أن الدنيا حقيرة قليلة الوفاء، كثيرة الجفاء، تحزن أكثر مما تسر، وتجرع سم العذاب أكثر مما تسقي حلو الشراب، وتذكرت قول الله تعالى : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"[6][6]  وقوله جل وعلا : " يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور."[7][7]وقول النبي (ص) لابن عمر رضي الله عنه : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"[8][8]. وقوله (ص) : "مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"[9][9]وقوله: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما"[10][10]،. وروي أن الحسن البصري رضي الله عنه بعث برسالة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز عندما تولى الخلافـة،قائلا : " بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإن  رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك، الزهد في الدنيا، وإنما الزهد باليقين واليقين بالتفكر،والتفكر بالاعتبار. فإذا أنت تفكرت في الدنيا لم تجدها أهلا أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلا أن تكرمها بهوان الدنيا فإن الدنيا دار بلاء وموطن غفلة "[11][11]
ثم إن الإنسان يعتبر جزءا لا يتجزأ من هذا الكون العظيم، وبالتالي فإن مفهوم التسبيح الذي يشكل القانون والمنهج الجوهري الذي تنتظم فيه كل المخلوقات انطلاقا من قوله تعالى " يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض"[12][12]، يعبر عن الخاصية الذاتية لهذه المخلوقات، كما أن هذا الانسجام والتناغم الذي يعم الكون له علاقة وطيدة بمنطق التسبيح. وإذا كان الخالق سبحانه قد أودع في مخلوقاته، من حيوانات ونباتات وخلايا وأنهار وبحار ونجوم وكواكب، قانون التسبيح وألهمها ذكره والدوران في فلكه، فإنه قد هدى الإنسان إلى نفس القانون بواسطة الوحي المنزل من عنده. ومن هنا فإن الإنسان الذي يعرض عن تعاليم القرآن التي هي تعاليم فطرته المفطور عليها، فإنه يتحول إلى عنصر شاذ يصطدم  بعناصر الكون بما في ذلك نفسه التي بين جنبيه، كما أن كل ما في الكون ينقلب ضده ويدخل في صراع معه، لأن الكون يدور ويسبح و يُسبح في فلك مادي ومعنوي، وما دام الإنسان جزءا من الكون فإما أن يدور ويسبح، وتلك فطرته وإما أن يلفظه الفلك فيغدو نشازا شاذا. وكمثال حي على الإنسان الذي لفظه فلك التسبيح الشخص المنتحر، أو اللعين المطرود من رحمة الله، أو المصاب بأمراض نفسية حادة، أو المشرك بالله الذي خر من السماء ولم يعد له مكان فيها مصداقا لقوله تعالى. "ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق"[13][13]وهذا أبلغ تعبير وتصوير لطرد الإنسان من فلك التسبيح.
وغني عن البيان أن الذي يقبل على قراءة الذكر الحكيم بشغف وهمة ووقار، مع تعظيم للرب وإخلاص الدين له وصدق لهجة المناجاة من خلال الترتيل، يجد من اللذة الروحية ما يعجز عن وصفه الواصفون. وفي هذا الصدد يقول العلامة محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية رحمه الله:
" لذة كل أحد على قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسا وأعلاهم وأرفعهم قدرا؛ من لذته في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه. فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه، ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال. فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله. كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت منه".[14][14]
ثم إن اللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا، ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في علم المادة فعل المغناطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد. والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم، يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يخطر على بال غافل ولا يرقى إليه عقل جاهل.
ثم إن الآيات القرآنية تتأرجح في صورها ومشاهدها بين الوعد والوعيد محدثة بذلك توازنا وطمأنينة في باطن المسلم. ولولا ذلك لما كان في مقدوره أن يحافظ على سكينته النفسية، ومن هنا فإن الآيات المعبرة  عن مشاهد النعيم، تخفف من وطأة الخشوع والخوف الناتجين عن التأمل والتمعن في الآيات المعبرة عن مشاهد العذاب وأهوال القيامة.
وإذا تعود المؤمن استحضار قلبه والتحلي بحلية الخشوع أثناء تلاوة القرآن، فقد أذن لنفسه في ولوج عالم التدبر، وهو فضاء معنوي  فسيح لا يتوقف عن الاتساع بفضل إمدادات حالتي الحضور والخشوع، وترى العبد يسبح في أرجائه ممتطيا معاني الآيات، منتهلا من حروف " إقرأ" وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. تارة تعتريه الدهشة والحيرة من شدة الأنوار الساطعة من أصل تلك الحروف، وما تحمله من إيحاءات ربانية متلألئة، وتارة أخرى ينجذب إلى صلصاله الطيني حتى لا يزيغ عن دورته الفلكية أو يحمله هيمانه إلى عالم قد يكون فيه حتفه كما حصل لأصحاب الحلول ووحدة الوجود من الصوفية، وحتى يعرف أن التحقق بالعبودية الحقة يستلزم القيام بواجبات الاستخلاف وتطبيق شريعة الله.


باريس1983
د. عبد الله الشارف؛ مستخلص من كتاب "تجربتي الصوفية" (تحت الطبع).

المراجع


[15][1] لم أعثر على اسمه، والبيتان ذكرهما محمد بن قيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين.
[16][2] سزرة فاطر  آية 15
[17][3] محمد بن قيم الجوزية ؛ إ غاثة اللهفان من مصائد الشيطان ،  دار ابن زيدون بيروت  ص31-32
[18][4] سورة الأعراف 156-157
[19][5] رواه البخاري
[20][6] سورة الحديد 20
[21][7]     سورة لقمان آية 32
[22][8]رواه البخاري
[23][9]- انظر صحيح الجامع الصغير للسيوطي
[24][10]رواه الترمذي
[25][11]ابن الجوزي سيرة عمر بن عبد العزيز ، ص 124
[26][12]- سورة الجمعة آية 1
[27][13]- سورة الحج آية 29
[28][14]- محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، "الفوائد" ص 168-169، دار الكتب العلمية بيروت 1417هـ 1996م.




إرسال تعليق

0 تعليقات