التصوف الفلسفي في شعر محمد الحراق

التصوف الفلسفي في شعر محمد الحراق


انطلقت مؤخرا في بعض مدن الشمال سلسلة من الندوات هدفها التعريف ببعض رموز وأعلام الحركة الصوفية في المغرب، وهكذا نظمت ندوة للتعريف بأبي الحسن الشاذلي في مدينة شفشاون، وأخرى للتعريف بالشيخ محمد الحراق بمدينة تطوان، ساهم فيها ثلة من أهل العلم والفكر في كليات المدينة،
وبغض النظر عن الأهداف والمقاصد التي كانت وراء تنظيم هذه الندوات في هذه الحقبة بالذات، التي أصبحت فيها الصحوة الإسلامية محط اهتمام وتحامل الحلف الأطلسي والبرلمان الأوروبي؛ فإن ما ورد في بعض العروض والمداخلات اكتسى صبغة المغالطة المكشوفة التي كنا نربأ ببعض الأساتذة الوقوع فيها، من ذلك مثلا اعتبار تصوف الشيخ محمد الحراق تصوفا سنيا  -كذا- يعني أن الزاوية الحراقية بتطوان مدرسة لتخريج الملتزمين والملتزمات بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكأن اعتماد الكمان، والعود، والرباب، والطبل، والرقص، منصوص عليه في صحيح البخاري وصحيح مسلم على أنه من السنة العملية!؟
كما أن بعض المحاضرين حرص على تبرئة ساحة الشيخ محمد الحراق من القول بوحدة الوجود، ووحدة الشهود، والحلول، وغيرها من الضلالات العقدية الخطيرة التي تطفح بها أشعاره وابتهالاته؛ وقد توصلت "الراية" بمقال من الأستاذ عبد الله الشارف يناقش فيه باقتضاب، بعض الأبيات الشعرية من ديوان الشيخ محمد الحراق والتي أثبت من خلالها ضلوع الشيخ المذكور في هذا الضلال البعيد، وبالتالي الحكم عليه بأنه من المنتسبين للتصوف الفلسفي، ولا صلة له البتة بالسنة ومنهجها في المعرفة والتربية من قريب ولا بعيد. وهذا نص المقال:
كادت شمس الطريقة الدرقاوية تغيب في شمال المغرب لولا ظهور الفقيه المتصوف الشيخ محمد الحراق الذي أخذ على عاتقه القيام بمهمة نفخ الروح فيها، ولم يخف العربي الدرقاوي – مؤسس الطريقة – إعجابه بالشاب الحراق عندما التقى به في إحدى قبائل غمارة، حيث أسند إليه هذه الوظيفة، بعد أن لم ينجح في القيام بها تلميذه ومعاصرهما الشيخ أحمد بن عجيبة، هذا ما ذهب إليه الباحث المغربي عبد المجيد الصغير1.
لكن لماذا اعتنق هذا الشاب اليافع مذهب القوم وأعرض عن "علوم الظاهر" وهو الفقيه العالم؟ ولا أدل على علو مكانته في علوم الشريعة واللغة من كون زملائه من الفقهاء القرويين كانوا لا يستحيون من إبداء قلقهم لوجوده بين أظهرهم، خصوصا وأنه غريب، نزل من مدينة شفشاون كي يطلب العلم بفاس، لقد حز في نفوسهم تفوقه عليهم، فلم يهدأ لهم البال حتى أشاروا على السلطان مولاي سليمان ببعثه إلى تطوان، وتقليده منصب الإشراف الديني والعلمي على المسجد الأعظم الذي بناه بهذه المدينة سنة 1223 هـ.
لم تمر ست سنوات على قدومه إلى تطوان حتى كان الحسد قد تمكن من قلوب بعض علمائها الذين دبروا له مكيدة شنعاء: "فلما كان يوم الجمعة والوقت وقت الخطبة، دخل الإمام الحراق إلى المقصورة ليدخل منها إلى المسجد على العادة، ولم يغلقها من خلفه، وقد أرصد له خصومه متتبعين لحركته، بعضهم خارج المسجد وبعضهم داخله. فلما رأى المراقبون من الداخل أن الإمام قد أخذ مستقره من المنبر، أشاروا إلى مساعديهم، فأمروا امرأة من الفاجرات، كانوا قد زينوها واختاروها من الجميلات، بأن تدخل إلى المقصورة من الباب الذي بقي مفتوحا، ففعلت ما أمروها به، ثم وقفوا على جانب أبواب المسجد يجمعون الناس، فإذ ذاك خرجت المرأة كأنها تتسلل، لا علم بها بما وراء الباب، فتهامس الناس في الآذان"2. وهكذا لم يتردد قائد تطوان آنذاك في فصل محمد الحراق عن مهامه، وذلك بعد أن قدمت إليه شهادة  موقعة من قبل مائة وأربعة وأربعين رجلا يرأسهم القاضي عبد الرحمن الحايك خصم الحراق الأول.
كانت هذه الفاجعة هي السبب في اختياره طريق القوم وولوج باب التصوف. وتثبت الدراسات الصوفية أن أغلب أقطاب التصوف (ذو النون المصري، الحلاج، الغزالي، ابن الفارض، البسطامي...) كانوا يشعرون قبيل تصوفهم بنوع من الاضطراب النفسي أو الشك المعرفي.
وقبل الشروع في مناقشة الجانب الفلسفي في تصوف الحراق، لا بأس من إطلاع القارئ على نماذج من شعره في هذا المجال:
قال شاعرنا المتصوف في قصيدته "التائية"3:
أتطلب ليلى وهي فيك تجلت
وتحسبها غيرا وغيرك ليست
فذا بله في علة الحب ظاهر
فكن فطنا فالغير عين القطيعة
............
كلفت بها حتى فنيت بحبها
فلو أقسمت أني إياها لبرت
فحملت بها عني فلم أر غيرها
وهمت بها وجدا بأول نظرة
ولم أزل مستطلعا شمس وجهها
إلى أن تراءت من مطالع صورتي
.........
وأصبحت معشوقا وقد كنت عاشقا
لأن ظهوري صار أعظم زلتي
.........
ولي مقعد التنزيه عن كل حادث
ولي حضرة التجريد عن كل شركة
جلست بكرسي التفرد فاستوى
من الله عرش لي على ماء قدرتي
وقال في قصيدة أخرى:
كنت ما بيني وبيني
غائبا عني بأيني
والذي أهواه حقا
لم يزل ذاتي وعيني
فانظروني تبصروه
إنه والله إني
في الأبيات الثلاثة الأولى، يتوجه الشيخ الشاعر الحراق باللوم والعتاب لمن يتعب نفسه في طلب ليلى التي يقصد بها الحضرة الإلهية أو الله، بينما هي قد تجلت في ذاته وليست شيئا آخر سوى هذه الذات المريدة التي ما فتئت تطلب وتبحث. ومن أتم البله والحمق في مذهب الحب الإلهي أن يعتقد مثل هذا الاعتقاد؛ إذ ما تم غيرك، لأن افتراض وجود الغير عين القطيعة، أي أساس البعد والفرق الذي هو ضد الجمع، كما هو في تعبير المتصوفة. وفي البيت الثالث، يصرح بأنه فني من شدة حبه لها، وكلفه بها، لدرجة أنه لله تحنث لو أقسمت بأنه وإياها ذات واحدة، ويتابع الحراق في الأبيات الثلاثة التالية وصفه لحالة الذهول، أي الدهشة التي أصابته وهو هائم في رؤية ليلى إلى أن تجلت في صورته، وحينئذ غدا موضوع العشق بعد أن كان عاشقا.
وتبلغ الشطحات الصوفية مداها عندما ينزه نفسه في البيتين الأخيرين من "تائيته"، عن صفة الحدوث، بمعنى انه قديم وليس مخلوقا باعتبار أن كل مخلوق حادث، كما أنه مجرد ومنزه عن كل شريك وأنه قد جلس على كرسي التفرد واستوى على عرش القدرة؟
بعد هذا الشرح الخاطف والموجز للقطع الشعرية الواردة في "تائية" الحراق، تجدر الإشارة إلى أن معاني هذه الأبيات الستة تحوم حول نظريتي الاتحاد والحلول. إن شاعرنا المتصوف من خلال خطابه الموجه إلى طالب ليلى؛ أي الحضرة الإلهية، ومن خلال وصفه لحالة الفناء والذهول، وتجلي الذات الإلهية في صورته، لا يدع لنا أدنى ريب في القول بأنه كان من القائلين والمعتقدين لمذهبي الاتحاد والحلول، ومما يعضد هذا التأويل ويشهد له إضافة إلى ما ورد في "التائية" قوله:
والذي أهواه حقا
لم يزل ذاتي وعيني
فانظروني تبصروه
إنـــه والله إني
" لقد كان الحلول والاتحاد اللذان تمثلا في كثير من شطحات الصوفية، من أبرز أدوار الكمال عند صوفية القرنين الثالث والرابع، ولم يكن عليهم بعد أن بلغوا هذه المرتبة إلا أن يتعاهدوا تعاليم الصوفية ويعملوا على تركيزها ونموها، ولا سيما قد كان لديهم من الثقافات والفلسفات التي دخلت على المناطق الإسلامية وانتشرت بين المسلمين، بواسطة ما ترجم من آثار اليونانيين والفرس والصينيين وغيرهم من الأمم السابقة. لقد كان لديهم ما يعينهم على التوسع في تلك الأفكار ونشرها وإيجاد المبررات لها"4.
ولم يكن القول بالحلول والاتحاد وقفا على الصوفية بل سبقهم إلى الإيمان به عدد كبير من أقطاب الشيعة والروافض، كما نجد جذور ذلك في عقيدة النصارى القائلين بحلول الله في المسيح، والسبئية القائلين بحلول روح الله في علي. وقد تجلت هذه النظرية بوضوح عند الحسين بن منصور الحلاج المتصوف المصلوب، الذي تأثر ببعض الاتجاهات الغنوصية، خاصة منها ذات الطابع المسيحي والقائلة بوجود طبيعتين في شخص المسيح؛ الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية يقول الصوفي الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
ومما لاشك فيه أن نظرية الحلول والاتحاد التي ينطق بها شعر محمد الحراق لم تظهر عنده إلا بعد قطعها لمرحلة تاريخية طويلة تبتدئ – بالنسبة لحوض البحر المتوسط – بالقرنين الأولين للعهد الميلادي، حيث كان للفلسفة اليد الطولى في تطوير هذه النظرية التي يجرع أن يكون مهدها الأول هو الشرق الأقصى (الصين والهند).
وفي هذا الصدد يقول محمد البهي: "إن أوريجنس  المسيحي (185- 254م) هو الزعيم الذي ينسب إليه هذا الاتجاه الفلسفي في المسيحية، كما تنسب إليه المدرسة الدينية العقلية، وقد شرح الإنجيل شرحا حرفيا للعامة المبتدعين، وشرحا أخلاقيا للمتقدمين، وشرحا رمزيا صوفيا للخاصة، وهذا الشرح الأخير هو ما يعرف بالشرح "الإشراقي" أيضا، لما يدعي فيه من الاعتماد على النور الإلهي (البصيرة والإلهام) والإشراق والتجلي، وصداه هو ما يعرف عند المسلمين "بالحكمة الإشراقية".5
وجاء في كتاب "خريف الفكر اليوناني": "يقول أفلوطين يجب على أن يدخل في نفسي ومن هنا استيقظ، وبهذه اليقظة اتحد بالله، ويقول أيضا : يجب علي أن أحجب نفسي عن النور الخارجي لكي أحيا وحدي في النور الباطني"6.
ثم إن فكرة التجرد عن الدنيا والإعراض عن ملذاتها المباحة، وإماتة شهوات النفس وغرائزها الفطرية، أملا في النجاة وطلبا لمعانقة الحقيقة الإلهية، والذوبان فيها، والاتحاد بها، ترجع في أصولها إلى مفهوم الخلاص الذي تسرب إلى المسيحية عن طريق الفلسفة اليونانية، على يد المفكر والفيلسوف اليهودي الاسكندري فيلون: "إن الغاية من الفلسفة عند فيلون هي أن تكون مؤدية إلى الخلاص من الخطيئة، وإذا كانت تلك غاية الفلسفة، فعليها أن تبين لنا الطريق المؤدي إلى هذا الخلاص، والخلاص هنا يجب أن يفهم بالمعنى الديني، أعني تخلص المتناهي من حالة التناهي للوصول إلى اللاتناهي، وهو ما سيعبر عنه في المسيحية فيما بعد بفكرة الخلاص، وهذا الطريق هو إمكان عودة الفاني إلى حالة اللامتناهي، ويمكن أن يسلك في مرحلتين، مرحلة الشك ثم مرحلة التصوف....فحينما يبحث الإنسان في ذاته يجد أنه قابل لكثير من الأغلاط، فالحواس تخدع الإنسان، و المعرفة اليقينية لا سبيل إلى الوصول إليها، وبإيجاز المعرفة غير ممكنة. وكل ما نصل إليه هو اقتناعنا بأن اللذات الإنسانية فانية متناهية كلها نقص وشر، وإن العالم زائل وفان، فيدفعنا هذا إلى البحث عن وسيلة للخلاص، وتحصيل الخلاص إنما يتم بأن يتجه الإنسان إلى التشبه بالله، عبر الفناء فيه، وهذا الفناء يتم عن طريق التصوف، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بإدراكه مباشرة ودون حاجة إلى وسائط، ولهذا نجد فيلون لا يعطي أدنى قيمة للمعرفة ذات الوسائط، وإنما يريد أن يدرك الله مباشرة، وهذا الإدراك لله مباشرة إنما يتم عن طريق التجربة الصوفية، ففي حالة الوجد الصوفي يستطيع المرء أن يعاين الله"7.
وخلاصة القول أن – النفس عند فيتاغورس، وأفلاطون، وفيلون، وأفلوطين، كانت قبل اتصالها بالبدن في الملأ الأعلى مع الله، ثم هبطت إلى هذا العالم، ويجب عليها أن تتحرر من الشهوات، وتدمن التأمل في الله، ليتم لها الاتصال بالعلة الأولى وهي الله، وحينئذ ستشعر بالسعادة لاتحادها به.
ويرى هؤلاء أن الغاية من الفلسفة؛ هي الخلاص من الآثام، بمجاهدة النفس وقمع شهواتها، تم الاتصال بالله والاتحاد معه، وهذا هو الفناء المطلق الذي تصبو إليه روح المتصوف.
ولعل مما يدل على تأثير روح الفلسفة اليونانية في التصوف الإسلامي، ذلك الانقلاب المفاجئ الذي أصاب حقيقة هذا التصوف، والمتمثل في انتقاله من المستوى العملي إلى المستوى النظري.
فإذا كان المتصوفة الأوائل يعرفون بالزهاد والعباد، فإن لاحقيهم من متصوفة القرنين الثالث والرابع وما بعدهما، مثل جلال الدين الرومي، والحلاج، والبسطامي، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وغيرهم، عملوا على بلورة نظريات فلسفية صوفية شاملة. ومن هنا فقد استعانوا بالفلسفة الميتافيزيقية في الدفاع عن قولهم بوحدة الوجود والاتحاد والحلول.

إرسال تعليق

0 تعليقات