الاستغراب الفلسفي في رواية "أرصفة وجدران"

لعل من الصعوبة بمكان  إنكار المبررات المنطقية والموضوعية للاستغراب الروائي في مجال النقد، وذلك لأن الناقد العربي حين يقارب الرواية يقف على أرض لا يتوفر فيها على أصول أو تراث نقدي، عليه أن يبحث عن جذور له في النقد الأوربي بالضرورة، وذلك ما فعله العرب منذ نهاية القرن الماضي، إذ أكد بعضهم مثلا سنة 1899 على الأهمية التي اكتسبتها الرواية في الدول الأوربية: "لا يخفى ما لأمم أوربا على العموم من الشغف بأمر الروايات ولا سيما التمثيلية منها لما فيها من الحكمة من تهذيب الأخلاق وتنوير الأذهان.." كما نجد بعضهم الآخر يشير في نفس الفترة إلى النقد الذي يواكبها في الدول الأوربية وأهميته في تطوير الإنتاج الروائي. "فعندهم (الأمريكيون والأوربيون) نوع من التعليم والتدريب في جرائدهم وهو الانتقاد الممحص الذي تنتقد به مؤلفاتهم. فلا تظهر رواية حتى ينبري لها كتاب من كل صوب يبينون ما فيها من الحسنات والسيئات والمبتكرات والمنتحلات، وكلما علت منزلة المؤلف في عيونهم بالغوا في انتقاد روايته وإظهار معايبها"1.

لكنه إذا أجاز النقاد (الاستغراب) في ميدان النقد الروائي، فكيف يرضون عنه في مجال الإبداع؟ وهل كان من الضروري أن تلتقي جميع المذاهب والتيارات، التي أنتجها الغرب، في الرواية المغربية؟ أليس في مقدور الروائيين المغاربة أن يبدعوا خارج إطار الإيديولوجيات والفلسفات المستوردة؟ أم أن وجود ذلك الإطار شرط في الإبداع الروائي ؟‼

تعتبر رواية "أرصفة وجدران"2 لمحمد زفزاف من بين الروايات المغربية الكثيرة التي تجسد الاستغراب الروائي شكلا ومضمونا. وقد اختار الكاتب الروائي الفلسفة الوجودية على الطريقة السارترية "ج بول سارتر"، إطارا لتصوير أحداث الرواية، ومجالا فكريا مؤسسا للحوار. إن بومهدي- البطل الأساسي لرواية "أرصفة جديدة"- يكره العالم ويجرده من كل قيمة: "إن العالم مهترئ وقديم، بل عادي جدا"3 ولا يستثني في كراهية العالم حتى أمه:"إني أكرهها وأكره حتى البيت الذي يجمعني وإياها، إنها تعطف علي، ولكني أعتقد أنها لا تصلح لعطفي عليها، إنها لا تعجبني، لست أدري لماذا"4

ويعبر محمد زفزاف  من خلال بطله "بومهدي" عن أفكار العبث وسخافة الحياة ولا جدواها بأسلوب لامس أسلوب ج.ب.سارتر عندما يتحدث في "الغثيان" على لسان بطله "انطوان روكونتين"، "انطلق على الرصيف كورقة صفراء تدفعها الريح" 5.
" رأسي ثقيل كالرصاص، في جمجمتي نغم كنسي رتيب: طن، طن، طن"6
" في داخل الذات هناك الآلام، وانتحارات باردة كالصقيع"7
" الحياة غير مجدية، العبث في كل شيء، هذا العالم لا يحتمل"8
" ضجيج السيارات والشاحنات، الناس يمشون بلا هوية"9

ويبلغ الشعور بالضياع مداه عندما يبدي البطل رغبته في الانتحار "أنا أنتحر بسهولة ويسر... أو أتناول أقراصا مميتة(...) أفكر أحيانا في الفرق بيني وبين هذا الجدار وهذا النبات، ربما يكون أحسن حالا مني"10

إن التجربة الأساسية التي تقوم عليها رواية "الغثيان" لجان بول سارتر هي تجربة الملل. ذلك الملل العميق الذي يخيم كأنه ضباب صامت في مهاوي الواقع الإنساني، والذي يدفع بالإنسان إلى الانسلاخ من شخصيته والانعزال عن المجتمع. وليس الغثيان– كما جاء في الرواية المذكورة- سوى الشعور بالاختناق الذي يسببه الكشف للوجود، كأنه شيء يأخذك من كل جوانبك بغتة ويثقل على قلبك أشبه ما يكون بحيوان ضخم لا يتحرك.

يقول سارتر." يجب علينا أن نتخلى عن إرادة فلاسفة الواجب، التي لا هم لهم سوى أن تفرض على عقولنا ومشاعرنا نظاما مصطنعا، وقهرا متعسفا، وينبغي أن نترك الأنا بأكملها لمنطقها الخاص وهذا معناه ألا يصير مجال لأن أقول "أنا" أو "أنا أفكر" بل أن أقول "ثمة شيء يفكر فيه" و "كلما ازداد تفكيري قل وجودي" على حد تعبير إحدى شخصيات رواية "إيقاف التنفيد".  ونتيجة هذا الانسلاخ من الشخصية هي أن نستعبد من الفكر كل ما هو ذو وزن أو تركيب اجتماعي، أوكل خضوع للأوامر الأجنبية عن الذات، وكل ما يصدر عن تأثير عائلي أو مهني، أو الأشكال المتحجرة للتقاليد. وبهذا يختفي الستار الذي يحجب عنا العدم، والذي يحمينا من الغثيان"11
ويصح أن يرى  الباحث في فلسفة سارتر تعبيرا عن يأس الإنسان الأوربي في فترة ما بعد الحرب، والإنسان الفرنسي خاصة، وأن يجد أن تلك الفلسفة هي التي تقابل "تصور العالم عند كائن بلا إيمان ولا عقيدة، وبغير هدف في الحياة".

والسمة المشتركة الرئيسية بين مختلف الفلسفات الوجودية في القرن العشرين الميلادي، تقوم في أنها جميعا تنبع ابتداء من " تجربة" معيشة، تسمى تجربة "وجودية". ومن الصعب تعريفها تعريفا دقيقا، وهذه التجربة الوجودية تختلف من فيلسوف لآخر من هؤلاء الوجوديين. وهكذا، فإن تلك التجربة تأخذ في حالة (ياسبيرز) شكل إدراك سخافة الوجود، وفي حالة (هيدجر) شكل تجربة "السير نحو الموت"، وفي حالة (سارتر) شكل تجربة "الغثيان". ولا يخفي الوجوديون أبدا أن فلسفتهم نشأت من تجربة من هذا القبيل. ومن هنا فإن الفلسفة الوجودية، بصفة عامة، بما في ذلك عند (هيدجر)، تحمل طابعا شخصيا بسبب التجربة المعيشة.

"ويرفض كل الوجوديين التمييز بين الذات والموضوع، ويقللون من قيمة المعرفة العقلية في ميدان الفلسفة. فهم يرون أن المعرفة الحقة لا تكسب بوسيلة العقل، بل ينبغي بالأحرى التعامل مع الواقع، هنا التعامل أو الخبرة يتم على الخصوص بالقلق، أو في تجربة القلق، وفيه يدرك هشاشة وضعه في العالم هذا العالم الذي يلقى إليه الإنسان إلقاء، ويدرك أخيرا أنه سائر إلى الموت"12.

إن المرء ليعجب عندما يطلع على الموقف السلبي الذي اتخذته الوجودية إزاء العقل، ولكن العجب قد يبطل إذا علم أن الوجودية جاءت في عصر شهد انهيار المذاهب التفاؤلية المتسمة برضا "البورجوازية" والإيمان بالتقدم والثقافة، وفقد عمق الإحساس بالوجود والقيم، ورأت الوجودية أن أزمة العصر هي غربة الإنسان عن ذاته: فإن التقدم التكنولوجي قد جعل منه " ترسا" في آلة أو قطعة غيار في جهاز.

ومن ناحية أخرى فإن الوجودية منذ ظهورها على يد (كير كجورد) الدانماركي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهي تميل إلى الاهتمام بالواقع الذاتي للتجربة الإنسانية أكثر من اهتمامها بالواقع الموضوعي للإنسان، غير أن هذا الميل ازداد ترسيخا وتجدرا تحت تأثير المشاكل والويلات التي نتجت عن الحربين العالميتين. حيث ساد شعور عميق بانهيار القيم، فسيطرت الأفكار التشاؤمية وانتشرت فلسفات اللامعقول، وشرع الكثير في التفكير والاعتقاد بأن الكون قد فقد معناه وأن الحياة باطلة محورها العدم.
ترى هل يكون "بومهدي" حقا بطلا ذا شخصية وجودية مماثلة لشخصية "انطوان روكنتين"؟ وهل يستطيع محمد زفزاف نفسه أن يكون وجوديا بكل ما تحمله كلمة "وجودية" من أبعاد فلسفية وخصوصيات ثقافية؟
إن كثيرا من أفكار كاتبنا الروائي تلك التي نطق بها على لسان بطله "بومهدي"، ليس لها جذور في أرض الواقع المغربي باعتبار البون الشاسع – فكرا وحضارة وثقافة- بين مجتمعنا والمجتمع الغربي. إذا جاز لبعضهم مثلا أن يجد تبريرا للتقليد والاستغراب في ميدان الفلسفة الماركسية الاشتراكية، نظرا لما كانت تملكه من برنامج اقتصادي وسياسي، فكيف يعلل التقليد المتعلق بالفلسفة الوجودية تلك التي تعبر عن تجربة تاريخية وذاتية مؤلمة عاناها المجتمع الأوربي وعبر عنها بعض المثقفين في إطار فلسفي؟ أليس هذا محض استغراب فلسفي؟.
الدكتور عبد الله الشارف
مجلة النور تطوان المغرب

الهوامش



1–فاطمة الزهراء أزرويل المرجع السابق ص 30-31
2–صدرت هذه الرواية عن منشورات وزارة الإعلام بالعراق،سلسلة متابات جديدة رقم 1-1947
3– أرصفة وجدران... ص 9
4- أرصفة وجدران... ص 13
5- أرصفة وجدران... ص 10
6- أرصفة وجدران...ص 25
7- أرصفة وجدران...ص 66
8- أرصفة وجدران...ص 70
9- أرصفة وجدران...ص 70
10- أرصفة وجدران...ص 62
11– ريجيس جوليفييه "المذاهب الوجودية من كير كجورد إلى جان بول سارتر" ترجمة فؤاد كاحل/ القاهرة1971 ص 129
12– إ.م. بوشنسكي "الفلسفة المعاصرة في أوربا" ترجمة د. عزت قرني، سلسلة عالم المعرفة ع 165 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 1992، ص 268.

إرسال تعليق

0 تعليقات