بين المعول المغرور والجبل الأشم

يعتبر الدكتور محمد عابد الجابري من بين المفكرين المغاربة الذين تأثروا بأطروحات المستشرقين ومنهجهم في دراسة التراث الإسلامي. وعندما اطلعت على كتاباته الأخيرة المتعلقة بفهمه للقرآن الكريم، سجلت بعض الملاحظات التي ستشكل، بإذن الله، أساس دراسة نقدية لذلك "الفهم الخاص" المستلهم لروح الاستشراق. بيد أنني استعجلت الأمر وبادرت بتحرير حوار رمزي متخيل بين "المعول المغرور والجبل الأشم"، بعد أن انقدح جوهره في ذهني فجأة أو ورد على قلبي ورودا.

نسي الجيولوجي معوله على رأس جبل، وانحدر خائبا يائسا من هدمه. حدثت رياح هوجاء دحرجت المعول، فارتطم بصخرة عظيمة تكسرت على إثرها يده. فزمجر غاضبا : أيتها الصخرة اللعينة : سأنتقم لنفسي وأدكك ما بقي الليل والنهار، حتى تتحولي إلى ذرات تعبث بها تلك الرياح التعيسة التي آذتني.

فأجابت الصخرة :
أيها المعول المكسور المغرور؛ إن سيدك استخدمك ليقيس بك صلابة سيدي الجبل، فعندما تبين له أن الأدوات العاتية التي يملكها لن تقتلع الجبل الراسي من أصله وجذوره، أعرض عن حلمه وولى. فكيف تدعي ما لم يجرؤ عليه سيدك ؟

المعول المغرور:
إن سيدي رغم قوته وقوة آلاته، إنسان عجول مفتقر إلى الصبر. أما أنا فسأظلُّ أنخُرُ في هذا الجبل، وأهشِّم صخراته متسلحا بالعزيمة والصبر، حتى إذا تعبت وفنيت قواي، سأعهد لأولادي بمتابعة العمل الشاق، وهؤلاء سيوصون أولادهم وهكذا إلى أن يصبح الجبل أثرا بعد عين.

الصخرة:
ألم يأتك نبأ "ثمود الذين جابوا الصخر بالوادي وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد" ؟
(سورة الفجر، الآيات من: 9 إلى 14)

المعول المغرور:
دعني من هذه القصص والأساطير، ومن الأقوام التي عاشت في القرون الغابرة، وكانت تؤمن بالخرافات والآلهة الجبارة، فهذا زمن آخر؛ زمن العلم والمادة، زمن الاكتشافات والإبداعات واختراق الفضاء، وزمن هدم الجبال !!

الصخرة:
لكن يا عزيزي الأبله؛ ألم تسمع أن العلم اكتشف أخيرا سر وجود الجبال، وأكد أنها ضرورية للحفاظ على توازن الأرض، وهو ما أثبته القرآن الكريم قبل خمسة عشر قرنا : "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" (سورة لقمان، الآية : 10). فإذا هدَّمتها أنت وأسيادك وذريتك، ستضطرب الأرض وتحدث الكارثة !.

المعول المغرور:
هذا الذي تزعمينه ليس من شأني، ولا يتسع له عقلي، إنما مرادي هو تحطيمك أنتِ والجبل، ولن تستطيعي النيل من إرادتي، ولكأني مسوقٌ إلى هذا العمل سوقا، أو مجبَرٌ عليه جبرا.

الصخرة:
مادام عقلك ناقصا وأَفِنًا، ومرادك مراد الحمقى المغرورين، وإرادتك أثبتَّها لغيرك بقولك أنك مسوق ومجبر، فلا معنى للاستمرار في الحوار.

يا بنيّ :
إن مثل الجيولوجي والمعول والجبل، كمثل المستشرق والمستغرب والقرآن.

والمستشرق هو ذلك الباحث الغربي الذي تخصص في ثقافات الشرق وعلومه ومعارفه، وفي دراسة تقاليد وأعراف ونظم المجتمعات الشرقية، سواء كانت إسلامية أم وثنية. ولم تكن أعمال وتآليف المستشرقين لتظهر وتتحقق، لولا تأييد حكوماتهم، ومساعداتها لهم، وسهر مؤسساتهم العلمية على نشاطهم وأبحاثهم. بل إن العامل الديني-السياسي، كان أهم العوامل التي عملت على نشأة الاستشراق. وكان هدف الحكومات الأوربية المسيحية، قديما وحديثا، يكمن في وضع حد لقوة الشرق والسيطرة عليه، وإخضاعه لسلطانها.

وهكذا بعد أن فشل المسيحيون في الحروب الصليبية، لجأوا إلى السلاح المعرفي. فنشأت في البداية حركة الترجمة ونقل العلوم الإسلامية من العربية إلى اللاتينية، ثم انبثقت فكرة الاستشراق؛ فجهزت الحكومات المسيحية جيشا من المستشرقين؛ منهم من كان يعمل ويبحث في بطون الكتب، ومنهم من رحل إلى البلدان الشرقية دارسا وناقلا ومحللا.

ثم إن تلك الحكومات "ساعدت على إنشاء "المعاهد" للدراسات الشرقية والاستشراقية، والتي أصبحنا نجدها في كل بلدان العالم الغربي، وأغدقت على المستشرقين الأموال والإنعامات، ومنحتهم الألقاب الفخرية، فكانوا لها مستشارين صادقين مخلصين في خدمة بلادهم، لهم الرأي المسموع والكلمة النافذة، والقرار الذي لا يرد. لقد أصبح الاستشراق عنصرا هاما لتقديم المعلومات والأفكار والدراسات والمقترحات لأركان الدول التي ينتمي إليها هؤلاء المستشرقون"[1].
وهكذا يذهب بعض الباحثين إلى أن الاستشراق ظهر في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، ولعل هذا هو السبب الذي أدى بنجيب العقيقي إلى أن يجعل كتابه عن المستشرقين – في أجزائه الثلاثة- سجلا للاستشراق على مدى ألف عام، بدأ من الراهب الفرنسي جريجوري أورلياك (940/1003)...[2].

إن المتأمل في كثرة ووفرة الإنتاج الاستشراقي، وفي ضخامة المجهودات المادية والمعنوية التي بذلت في سبيل هذا الإنتاج، لابد أن يتساءل عن طبيعة وثقل الأهداف التي كانت وما تزال – مع شيء من التغيير الشكلي- وراء النشاط الاستشراقي. نعم إن علم الاستشراق يهدف إلى غايات عميقة لها علاقة وطيدة بالصراع الدائر بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني، ذلك الصراع الذي ولد مع ظهور الإسلام.

كانت الحصيلة العلمية خلال قرون طويلة؛ عشرات الآلاف من الكتب والمقالات والأبحاث والدراسات والمذكرات والتقريرات :
"لقد بلغ ما ألفه المستشرقون من أوائل القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين الميلادي (فقط) 60 ألف كتاب في التاريخ، والشريعة، والفلسفة، والتصوف، وتاريخ الأدب واللغة العربية، بالإضافة إلى إصدار أكثر من خمسمائة مجلة تتعلق بالاستشراق"[3].

وفيما يخص الحضارة الإسلامية، لم يترك المستشرقون بابا إلا طرقوه، أو علما إلا كتبوا فيه. إلا أن أبحاثهم صدرت مصبوغة بالصبغة الذاتية، مليئة بالأفكار المسبقة، تنبعث منها رائحة الحقد المسيحي الدفين. وكان القرآن الكريم ولا يزال من الكتب المستهدفة من قبل المستشرقين الحاقدين.

"اندفعوا نحو الترجمة الكيفية لا الصحيحة والعلمية، أو حتى النسبية لحد ما، إمعانا في التحريف والتضليل، وخوفا من أن يعتنق الإسلامَ من يقف من الأوربيين على حقيقة النصوص القرآنية فيما لو حصل على ترجمة صادقة أو صحيحة".
"انطلقوا في ترجماتهم استنادا من مبدأ يظهر القرآن الكريم للعالم – من خلال الترجمات – أنه من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كتاب متناقض وليس بكتاب موحى به من الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وزادوا على فكرة عدم كون القرآن من عند الله، فقالوا أنه مأخوذ باللفظ أو بالمعنى من كتب اليهود، كما فعل المستشرق اليهودي إبراهام جيجر، محاولة منه في إثبات نظريته الشريرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على كتب اليهود وبلغاتها المختلفة : العبرية والآرامية، وبأنواعها المختلفة: التوراة والمكتوبات والأنبياء والمشنا والجمارا (التلمود) والمدراش والترجوم وغير ذلك...والمعروف الذي لا يستوجب السؤال أن النبي رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، هكذا علمنا القرآن الكريم، وهذا أمر ثابت، وهذا ما يحققه كل من عرف النبي صلى الله عليه وسلم وكتب في سيرته. كما وضعوا المقدمات والدراسات لترجمات القرآن ونشروها قبل الترجمة، مدخلا إلى القرآن، متضمنة التشهير بالإسلام والنبي والمسلمين والعرب استنادا إلى المصادر اليهودية".
...
"قالوا، وهم يعلمون علم اليقين بعظمة القرآن وأثر القرآن في الشعوب، أن القرآن عقبة في سبيل ارتقاء الأمم الإسلامية، وقد قال اللورد كرومر، الذي يتفق بالرأي مع المستشرقين مستشاريه، والذي كان حاكما على مصر، قال في كتاب له عن "مصر الحديثة" نشره عام 1908 : "إن القرآن هو المسؤول عن تأخر مصر في مضمار الحضارة الحديثة". ومن أقواله المعروفة "لن يفلح الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطي به القرآن".
...
"وكم من رجال السياسة قبل كرومر وبعده قالوا مثل قوله. فقد صرح غلادستون (1809-1898) الذي ترأس الوزارة البريطانية أربع مرات، بقوله "لا راحة للعالم-ويقصد العالم البريطاني الذي يمثله- ما كان القرآن" !. وقال أحد رجال السياسة الفرنسيين ممن تحكموا في المغرب العربي المسلم : "لن يكون لنا الملك الحق في بلاد المغاربة أو نغرب دين القوم"!![4].
إن هذه الترجمات الرديئة والمغرضة لم تنل من عظمة القرآن وسموِّه، بل زادته رفعة وعلوا ودعت كثيرا من الغربيين للبحث فيه وفي معانيه.

نعم يا بنيّ:
إنه الجبل الأشم الذي رام الجيولوجي (المستشرق) تحطيمه، فاستعصى عليه، وخارت قواه، ورجع بخفي حنين بعد أن ألقى معوله. ثم سرت روح المعول في كيان المستغرب، وتجسدت فيه، فغدا معولا مغرورا، وانقلب يتخبَّط تخبُّطَ سيده المستشرق من المسِّ، وزعم أنه سيحقق ما عجز عنه سيده.

والمستغرب هو الإنسان -غير الغربي- الذي يحب الغرب، ويُجِلُّه، ويقلده، ويقدس ثقافته، سواء كان هذا الإنسان "مثقفا" أم عاديا. وكلاهما يمارسان الاستغراب، إلا أن استغراب الأول أعمق في التقليد والتبعية، وأعمى وأصم.

" إن هؤلاء الذين رفعوا لواء المحاكاة ومن تبعهم إلى الآن، يشكلون الجبهة الرابعة في الجبهات الأربع التي أنزلت الهزيمة بثقافتنا وبأصالتنا وأبرزت ظاهرة الاستغراب. وأولى تلك الجبهات تتمثل في المنصرين الذين عملوا على غزونا بواسطة المدارس والمؤسسات التعليمية والخيرية وشتى الإعانات. ثم جبهة المستشرقين طلائع الاستعمار، وذلك بما يبثونه في كتبهم من سموم تستهدف الأمة الإسلامية وتراثها، بالإضافة إلى خدماتهم الجليلة للمستعمر. وثالثا جبهة المستعمرين المكشوفة خلال الاستعمار والمتسترة أو غير المباشرة بعد مجيء الاستقلال.

والجبهة الرابعة هي الجبهة الداخلية، جبهة منا وإلينا، عملت من حيث تدري أو لا تدري على تسهيل مهمة الغزو الاستعماري، بل منها من شارك المستعمر القديم ويشارك الغزاة المعاصرين في صرفنا عن أصولنا وجذورنا، بل وفي غسل أدمغتنا من كل ماله علاقة بماضينا وتوجيه قبلتنا نحو الغرب.
لقد سعت هذه الجبهة المستغربة ـ بكل ما أوتيت من وسائل ـ إلى استيراد الثقافة الغربية حتى أصبحت هذه الثقافة في ثقافتنا المعاصرة، ظاهرة تدعو للانتباه، وغدا العالم هو الذي له دراية بالتراث الغربي، وأصبح العلم نقلا والعالم مترجما والمفكر عارضا لبضاعة الغير" [5].
إن المستغربين من المثقفين في بلادنا وبلاد المسلمين، هم من أبناء جلدتنا يتكلمون لغتنا، إلا أنهم انسلخوا أو كادوا من تراثهم ودينهم، وتنكَّروا لماضي أجدادهم المشرق، وتحولوا معاول مغرورة، وتوهم بعضهم أنه سيحطم الجبل الأشم. كلا والذي حفظ الكعبة من كيد أبرهة، وأرسل عليه وعلى جنده "طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل"، لهو المتكفل بالذود عن قرآنه وكلامه، لقوله تعالى : "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"(الحجر: 9). ومن آيات نصر الله لكتابه العزيز، دخول عشرات الآلاف من الغربيين المسيحيين في الإسلام خلال السنوات الأخيرة. ألم يأت المعاولَ المغرورة نبأُ هؤلاء المسلمين الجدد الذين سجدوا لله بعد أن أثرت فيهم آيات كلامه ومعجزات قرآنه. ألم يسمعوا بإسلام العالم الفيلسوف والمنظِّر الإشتراكي رجاء جارودي، وبإسلام الدبلوماسي والمفكر الاقتصادي الألماني مراد هوفمان، وقبلهما أسلم العالم النمساوي محمد أسد فايس، وغيرهم من العلماء والمفكرين ؟. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

يا بنيّ:
إن الغرب مصاب بما يطلق عليه في كتاباتهم "حمّى القرآن" !، أو"حمّى محمد"صلى الله عليه وسلم !، لأن نور الوحي القرآني قد سطع في ديار الغرب، فطفِق أبناؤه يدخلون في دين الله أفواجا. لقد باتت حصون الغرب مهددة من داخلها. كما أن الصحوة الإسلامية قد انتشرت في ربوع العالم الإسلامي، معلنة عن فجر عهد جديد، ومبشِّرة بنصر من الله أكيد. فكل هذه الأمارات والمؤشرات تقلقهم وتقُضُّ مضجعهم، فيفقدون بذلك ميزان العقل والمنطق، ويسلكون سلوك المتشنِّج، ويعملون على قذف المسلمين بشتى التهم والأباطيل، والاستهزاء بقرآنهم ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه، لعلهم بذلك يخففون من آثار الوطأة والصدمة. لقد ذهبت أحلامهم الاستشراقية أدراج الرياح، وتولد عن مخططاتهم التغريبية وعي بالذات وشعور بالهوية عند المسلمين المستهدفين.

يا بنيّ:
إن للباطل جولات ثم يضمحِلُّ، وإن للمعاول نقرات ثم تنكسِر.
"اقذف بحق الروح على باطل النفس فإذا هو زاهق، وتأسَّ بالمصطفى، وعبِّد طريقك، ونقِّهِ من أثر كل شيطان مارق، وتبتَّل إلى الحق تبتيلا، ولا تحفل باللوامع والبوارق، فتستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتُحجبَ بالشهوات عن المناجاة وبالخلق عن الخالق (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون)، وانبذ وساوسهم وفلسفتهم، وعَضَّ بالنواجذ على كلام الصادق، واسلك سبيل أهل الصلاح والزهد والرقائق. "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق""[6].

بقلم : الدكتور عبد الله الشارف
تطوان، جمادى الأولى 1429
ماي 2008


[1] د. محمد صالح البنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، ص : 90، منسوارات دار الآفاق الجديدة بيروت، الطبعة الأولى 1400 هـ/1980
[2] انظر د. نجيب العقيقي "المستشرقون" دار المعارف، الطبعة الرابعة القاهرة، 1981، ج 1، ص : 110.
[3] د. عبد العظيم محمد الديب "المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي"، كتاب الأمة عدد 27 قطر 1990، ص : 38.
[4] د. محمد صالح البنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، من صفحات : 104، 108،109، منسوارات دار الآفاق الجديدة بيروت، الطبعة الأولى 1400 هـ/1980
[5] د. عبد الله الشارف "الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر"، منشورات نادي الكتاب لكلية الأداب بتطوان، طوب بريس، الرباط2003، ص : 12.
[6] د. عبد الله الشارف : "من أدب الرقائق" تحت الطبع.

إرسال تعليق

0 تعليقات