قراءة في إشكالية التصوف

قراءة في إشكالية التصوف




د. عبد الله الشارف


التصوف شكل من الأشكال الثقافية المكونة للفكر الإسلامي بصفة عامة، ذلك أن التراث الفكري للحضارة الإسلامية يضم، إلى جانب الفقه وعلم أصوله، التصوف والتفلسف والمنطق والأدب وعلم الكلام والعلوم الطبيعية من فلك وكيمياء وطب....الخ.



وإذا كان علم الكلام والتفلسف قد أصابهما نوع من الفتور أو الذبول، فإن التصوف ما زال يحيى في بعض الأوساط الاجتماعية والثقافية، وما ذلك إلا لأن فرضياته التي ينطلق منها تعتمد بطريقة أو أخرى على نصوص من الكتاب والسنة. كما أن وضعية التغريب والفتنة التي نعيشها والتكالب على الدنيا والفساد الاجتماعي والأخلاقي، كل ذلك قد يكون عاملا من عوامل انتشار منطق التصوف والإقبال على الممارسة الصوفية. إلا أنه ينبغي الاجتهاد للوصول إلى موقف إزاء التصوف، يكون حدا وسطا بين الرافضين رفضا باتا؛ وهم المتشددون من أهل السنة، وبين المتعصبين للتصوف القائلين بالقبول التام للفكر الصوفي واعتباره الجوهر الحقيقي للإسلام.

ومما لاشك فيه أن كثيرا من أوائل كبار المتصوفة ومنظريهم؛ كالحسن البصري وأبي القاسم الجنيد، لم يصوغوا أفكارهم ونظرياتهم إلا بعد تفكير واجتهاد فقهي، ومن هنا فإنهم اجتهدوا كغيرهم، فمنهم من كان مصيبا في اجتهاده وخصوصا من الأوائل أو من متصوفة الرعيل الأول، ومنهم من  لم  يوفق في ذلك فمال عن الجادة وانحرف، ومعظم هؤلاء ممن عاصروا زمن التفاعل الثقافي في عهد الدولة العباسية وبعدها، وتأثروا بالفلسفات والمذاهب اليونانية الفارسية، أو ممن عاشوا عصور انحطاط الأمة الإسلامية حيث تبلور التصوف الطرقي الذي ما زال قائما إلى الآن.

ومن باب النزاهة والإنصاف أن يعرض الإنتاج الصوفي على الكتاب والسنة، ويدرس على ضوء قواعد الشريعة ومقاييسها، فما وافق منه مبادئ الدين وأهدافه ولم يتعارض مع مقاصده قبل واحتفظ به، وما اختلف مع تلك المبادئ والأهداف رد ورفض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم." من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"[1]

إن عملية تجريد العطاء الصوفي من البدع والشوائب والشطحات والضلالات، والاحتفاظ بما قد ينفع في ميدان تربية النفوس، وعلاج أمراض القلوب ومحو الرذائل وغرس الفضائل، عملية مفيدة وبناءة ينبغي أن ينتدب لها أولوا الرأي من العلماء والفقهاء، وما دامت الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، فإن كثيرا من كتب المتصوفة على علاتها تزخر بالحكم والأفكار الخلقية والتربوية الهامة.

ومن القضايا المرتبطة بإشكالية التصوف؛ هناك قضية النشأة. فإذا كان أغلب شيوخ التصوف ومؤرخيه يرجعون نشأته إلى القرن الثاني للهجرة، فإن منهم من يذهب إلى أن التصوف عرف عند الصحابة ونشأ في أحضانهم. ففيما يخص الاتجاه الأول، يذهب بعض المؤرخين إلى أن ظهور التصوف كان نتيجة إقبال الناس على الدنيا والانشغال بها، ولذا عرف المقبلون على الزهد والعبادة باسم الصوفية أوالمتصوفة. ومنذ ذلك الحين غلبت هذه التسمية على هذه الطائفة من الزهاد؛ فيقال رجل صوفي وللجماعة "الصوفية". ويقال بأن أول رجل لقب بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي المتوفى سنة 150 هـ وأنه بنى أول خانقاه للصوفية في الرملة من بلاد الشام. وكان يقول بالحلول والاتحاد، وكان باطنيا ودهريا، وهو من الموالي. وقيل أن أول من تسمى ببغداد صوفيا هو عبدك الصوفي، وقيل من بين الذين لقبوا بالصوفي أولا جابر بن حيان[2] ، ويقول ابن خلدون رحمه الله في مقدمته:

"إن نشأة التصوف كانت في القرن الثاني عندما أقبل الناس على الدنيا وانصرف أناس للزهد والعبادة فسموا بالصوفية". وأيد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الرأي فقال:"إن نشأة التصوف كانت في أوائل القرن الثاني الهجري وأنه لم يشتهر إلا بعد القرن الثالث"[3]وقال رحمه الله." إن أول ما ظهرت الصوفية في البصرة وأول من بنى دويرة للصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن يزيد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار. ولهذا يقال فقه كوفي وعبادة بصرية"[4] .كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه قد نقل التكلم بالتصوف عن الحسن البصري المتوفى سنة 110 هـ وعن سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ[5]. ويقول عمر رضا كحالة عن اسم الصوفية". اشتهر هذا الاسم قبل المائتين من الهجرة، فهو اسم محدث بعد عهد الصحابة والتابعين.[6]

وفيما يتعلق بالاتجاه الثاني؛ أكتفي بإيراد كلام للصوفي أحمد بن عجيبة. "وأما واضع هذا العلم – يعني علم التصوف- فهو النبي صلى الله عليه وسلم علمه الله له بالوحي والإلهام، فنزل جبريل عليه السلام أولا بالشريعة فلما تقررت نزل ثانيا بالحقيقة]  ‼ [، فخص بها بعضا دون بعض، وأول من تكلم فيه وأظهره، سيدنا علي كرم الله وجهه وأخذه عنه الحسن البصري... وأخذه عن الحسن حبيب العجمي، وأخذه عن حبيب أبو سليمان داوود الطائي....
وأخذه عن معروف الكرخي أبو الحسن سرى بن مغلس السقطي، وأخذه عن السري إمام هذه الطريقة ومظهر أعلام الحقيقة أبو القاسم محمد بن الجنيد، ثم انتشر التصوف في أصحابه وهلم جرا، ولا ينقطع حتى ينقطع الدين.

ومن رواية أخرى أخذه عن سيدنا علي رضي الله عنه أول الأقطاب سيدنا الحسن ولده، ثم عنه أبو محمد جابرثم القطب سعيد الغزواني، ثم القطب فتح السعود، ثم القطب سيدي عبد الرحمن المدني، ثم القطب الكبير مولاي عبد السلام بن مشيش، ثم القطب الشهير أبو الحسن الشاذلي، ثم خليفته أبو العباس المرسي، ثم العارف الكبير سيدي أحمد بن عطاء الله، ثم العارف الكبير سيدي داوود الباخلي، ثم العارف سيدي محمد بحر الصفا، ثم العارف ولده سيدي علي ابن وفا، ثم العارف سيدي عبد الرحمن الفاسي، ثم العارف سيدي محمد بن عبد الله، ثم العارف سيدي قاسم الخصاصي، ثم العارف سيدي أحمد بن عبد الله ثم العارف سيدي العربي بن عبد الله، ثم العارف الكبير سيدي علي بن عبد الرحمن العمراني الحسني، ثم العارف الشهير شيخ المشايخ سيدي مولاي العربي الدرقاوي الحسني، ثم العارف الكامل المحقق الواصل شيخنا سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني، ثم عبد ربه واقل عبيده أحمد ابن محمد بن عجيبة الحسني (أي صاحب هذا النص) ثم عنه خلق كثير والمنة لله العلي الكبير.[7]

وتحدث عبد الرحمن بدوي في كتابه:"التصوف الإسلامي في القرنين الأول والثاني" عن بعض الصحابة؛ أمثال أبي ذر الغفاري وأويس القرني وعمران الحصين، ناعتا إياهم بالصوفية الأوائل ، كما انتهج النهج نفسه كثير من الكتاب المعاصرين ذوي الميول الصوفية، غير أن إطلاق لفظ الصوفية على الصحابة رضوان الله عليهم ينطوي في الحقيقة على نوع من الإسقاط، ولا ينبني على أسس منطقية سليمة، ذلك أنه ليس كل من عرف بالزهد أو الورع مثلا، يمكن حشره في فئة الصوفية. صحيح أن سلوك الصحابة كان سلوكا ربانيا مستقيما وظل نموذجا للسلوك المثالي، لكن هذا لا يعني أن القوم كانوا متصوفة.
ومن ناحية أخرى فإن الطريقة التي أخذ بها الصوفية في فهم الدين، أثارت عليهم حفيظة الفقهاء الذين بذلوا كل ما في وسعهم للرد عليهم والتصدي لهم، بل كانوا أحيانا يوغرون صدور الحكام عليهم. والفقهاء كانوا يهدفون بحملتهم هذه إلى غاية حميدة تتجلى في الذب عن الشريعة الإسلامية والحفاظ على نقائها وصفائها، والحيلولة دون تسرب الأفكار المنحرفة إليها. لكن موقفهم كان يتسم أحيانا بنوع من الشدة والمبالغة مما جعل شقة الخلاف تتسع بين الفريقين يوما بعد يوم.
إن انتقال المسلمين من الحياة البسيطة إلى حياة الترف والمدنية والأخذ بأسباب الحضارة وتقليد الفرس والروم، كل ذلك كان له اثر عميق في عقلية المسلم ونفسيته، مما نتج عنه تسرب الضعف الإيماني إلى قلبه، ولم يسلم كثير من الفقهاء أيضا من هذا التأثير حيث سرى الوهن في نفوسهم وأخلدوا إلى الدنيا ووقفوا على أبواب الخلفاء والمراء، ومع ذلك بقي علم الفقه يشق طريقه مهتما بالمستجدات اليومية وبالاجتهاد واستنباط الأحكام.
وفي هذا يقول أبو العلا عفيفي: " لم تكن الثورة التي قام بها الفقهاء ضد الصوفية في الحقيقة إلا رد فعل للثورة الروحية التي أراد الصوفية أن يحدثوها في الدين، فقد أدرك الصوفية أن الدين قد أصبح في عرف الفقهاء جملة رسوم وأوضاع لا حياة ولا روحانية فيها.
وهذه الرسوم والأوضاع إن أرضت ظاهر الشرع وأشبعت عقول المشرعين المفتونة بتقعيد القواعد وتعمير القوانين حتى لو أدى ذلك إلى اصطناع "الحيل" و "المخارج" غير المعقولة، لم تكن لترضى باطن الشرع ولا تشبع العاطفة الدينية عند الصوفية. لذلك كان لابد من أن ينقسم علم الشريعة إلى قسمين: علم ظاهر الشرع الذي يدرس العمال التي تجري على الجوارح وهي العبادات والمعاملات وقد سمي ذلك علم الفقه. والثاني علم الأعمال الباطنة أو أعمال القلوب وهو التصوف أو علم الحقائق"[8] . ولعل من الصعوبة بمكان أن نحصر أو نضبط الجوانب المختلفة للمعرفة الصوفية تلك الجوانب التي يمكن إخضاعها لعملية النقد والتنقيح، لكنه لا بأس من الاقتصار والتركيز في هذا المقال على جانبين أساسيين وهما: المصدر والأداة، أي المصدر المعرفي والأداة المعرفية في تكوين الإنتاج الصوفي.
فيما يتعلق بالمصدر أو المجال المعرفي الذي يستمد منه التصوف مادته الأولية فإنه يضم بالأساس القرآن والسنة ثم أقوال ووقائع مشاهير المتصوفة وشيوخ القوم، ثم أخبار بني إسرائيل وعبادهم ورهبان النصارى، ويضم أيضا حكم وأقوال بعض الفلاسفة ذوي النزعة المثالية الصوفية أمثال أفلاطون اليوناني وفيلون وافلوطين الإسكندريين وغيرهم، بالإضافة إلى أفكار وتصورات متعلقة باعتقادات الصابئة وبعقائد فارسية وهندية، وهذا المزيج يضم أهم العناصر الأساسية المكونة لبنية المعرفة الصوفية. ومما لاشك فيه أن هناك تنافرا بين بعض هذه العناصر كالقرآن والسنة من جهة والفلسفة الأفلاطونية مثلا من جهة ثانية. فكيف يا ترى جمع المتصوفة بين هذه العناصر بالرغم من استحالة الجمع أو التوفيق بينها؟.
لقد ثم لهم ذلك بواسطة عنصر يتعلق بجانب الأداة، إنه عنصر التأويل حيث عمد المتصوفة إلى تأويل كثير من الآيات بطريقة تتلائم مع المعرفة الصوفية. وممن اشتهر منهم – على سبيل المثال- في ميدان التأويل، الفيلسوف الصوفي ابن سينا في كتابيه "رسالة الطير" و "الإشارات والتنبيهات" وغيرهما، وابن الفارض صاحب نظرية العشق الإلهي والسهروردي المقتول صاحب نظرية الإشراق الصوفي، ومحيي الدين بن عربي فيلسوف وحدة الوجود الصوفية.
وبالنسبة للسنة، فإنهم إن عمدوا حديثا صحيحا أو حسنا يعضدون به كلامهم، لم يتورعوا من ذكر أحاديث ضعيفة أو موضوعة كما فعل أبو طالب المكي في كتابه "قوت القلوب" وأبو حامد الغزالي في مؤلفه المشهور "إحياء علوم الدين"، كما أنهم كثيرا ما عمدوا إلى تأويل الأحاديث تأويلا صوفيا باطنيا. ومن ناحية أخرى لا يخفى على أحد أن أخبار أنبياء بني إسرائيل وعبادهم مليئة بالإسرائيليات والقصص المختلفة والموضوعة، ومع ذلك اعتمد عليها المتصوفة في بناء مذهبهم وأوردوها في كتاباتهم واحتجوا بها احتجاجهم بالآيات والأحاديث.
أما فيما يختص بالأداة المعرفية التي اعتمد عليها المتصوفة في إرساء قواعد تصورهم المعرفي، فإنها تقوم أساسا على عنصري التأويل والتجربة الباطنية. والتأويل كما هو معلوم حمل اللفظ على مجازه لا على حقيقته، أو بعبارة أخرى صرف المعنى الظاهري إلى معنى باطني مع وجود القرينة، لكنه ثبت أن المتصوفة باستثناء الجنيد ومن سار على نهجه لم يكونوا من المتمكنين في العلوم الشرعية كالتفسير والفقه وأصوله وطرق التأويل وأساليبه وضوابطه، بل كان أكثرهم يمقت العلم إلا "علم الأذواق" أما "علم الوراق" فلا يعول عليه عندهم، ومن هنا فإنهم أولوا كثيرا من النصوص القرآنية اعتمادا على علم الأذواق، ذلك العلم الذي ترجع أصوله إلى الرؤية الباطنية حيث تغدو تجربة الصوفي الشخصية مقياسا للحكم على الأشياء. وبعبارة أخرى يفرق الصوفية بين علم الظاهر وعلم الباطن أو بين الشريعة والحقيقة، وفي هذا الصدد يقول أبو حامد الغزالي: "اعلم أن جانب العمل متفق عليه، وأنه مقصود لمحو الصفات الرديئة وتطهير النفس من الخلاق السيئة، ولكن جانب العلم مختلف فيه وتباين فيه طرق الصوفية طرق النظار من أهل العلم، فإن الصوفية لم يحرضوا على تحصيل العلوم ودراستها... بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكل الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك فاضت عليه الرحمة وانكشف له سر الملكوت وظهرت له الحقائق..."[9]
إذن فالمعرفة التي يصل إليها الصوفي عبد التجربة الباطنية معرفة مباشرة بغير وسائط من مقدمات أو قضايا منطقية أو براهين، إنها معرفة الكشف والإلهام. وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية. "وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد، ولهذا وجب عليهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهداتهم ورؤاهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين والملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب، وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم..."[10]
ومن ناحية أخرى يقول سعيد حوى: "من أعظم أعلام التصوف المجمع على إمامتهم عند المسلمين الجنيد. والجنيد نفسه كان على مذهب أبي ثور في الفقه أي لم يكن مجتهدا، ومن ثم فالصوفي  محكوم بكلام أئمة الاجتهاد...
والصوفي لا تأتي إمامته إلا من حيث كونه متحققا بما ذكرته النصوص،.. وإذا خرج التصوف عن ذلك وتكلم الصوفي بغير ذلك فعندئذ تكون الكوارث وقد كانت... وعلى كل حال فإن قضية تزكية النفس وتقوى القلب والمراقبة في العبادة والتحقق بمقامات الإيمان والإسلام والإحسان والتقوى والشكر شيء رئيسي، وتذوق أجزاء العقيدة وأصولها شيء لابد منه، وهي معان تحدثت عنها نصوص الكتاب والسنة، والصوفية هم أكثر الناس بحثا واستقصاء عن طرق التحقق بهذه المعاني...... لابد من وجود علم التصوف... إن نشأة علم يبحث أحوال الصحة والمرض للقلب والنفس وطرائق الصحة وأنواع المرض شيء عادي.... هذا العلم قد دخل فيه ما لم يدخل في غيره، إذ أصبحت خواطر الشيوخ جزءا منه بصرف النظر عن انطباقها على أصول الشريعة، وأصبحت المقامات والخواطر والواردات أصولا برأسها، وأوجدت طقوس وشعائر خاصة لكن طريقة وربي أبناء كل طريقة وأتباع كل شيخ على الكره للغير"[11]
تعقيبا على كلام سعيد حوى أقول: قد تكون في عملية إحياء علم التصوف الحقيقي خير للمسلمين لما في ذلك من تهذيب للأخلاق وتقوية للمعاني الروحية. لكن ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى ظهور نفس الانحرافات والشطحات وتقديس الشيوخ واعتبار وارداتهم ورؤاهم أهم وأصدق من السنة؟ ألن تعود إلى الساحة نفس الخواطر والإلهامات؟ بل كيف يمكن لمن يسلك سبيل التصوف ألا يكون قلبه محل ورود الواردات وإشراق الإشراقات المختلفة التي قد تكون أحيانا قوية أو غامضة فتعمي نور العقل، فيجهل حكم الله فيها، أو يمنع صاحبها، بفعل الشحنة الروحية الطارئة والمباغتة من عرضها على الكتاب والسنة؟ وهل ضل أكثر المتصوفة – مع بدايتهم الصادقة – إلا بحلاوة الوجد والذوق التي أعقبت ورود الواردات وإشراق الإشراقات؟
إن المطلع على كتابات الحلاج وابن الفارض وابن عربي (محيي الدين) وابن سبعين والسهروردي الإشراقي وغيرهم، يجد أنهم يحدثون عن تجربتهم الباطنية وأفكارهم وإلهاماتهم بنوع من الأدب والتواضع يتخلله شيء من الإعجاب والشعور بالولاية والاصطفاء!أليس هم الخاصة وغيرهم العامة؟ ألم يخبرونا بأنهم اطلعوا على أمور أو كشف لهم أشياء لا تكشف إلا "لأهل الله والمقربين"؟‼ لقد بدأ هؤلاء طريقهم بالزهد والتجرد وتربية النفس ليصبحوا من الخاصة أو خاصة الخاصة، ومن أهل الحقائق والرقائق وغيرهم في ظلام دامس!لماذا يا ترى انحرف معظم المتصوفة وخصوصا المتفلسفة منهم والمتأخرين من اتباع الطرق والزوايا؟.
هناك عوامل كثيرة وراء ذلك الانحراف، ولعل ثنائية الحقيقة والشريعة التي افتعلها المتصوفة تكون من بين العوامل الأساسية في ذلك: إن الصوفي عندما يقول بأنه ينتسب إلى أهل الحقيقة، فإنه يؤسس في نفسه نفورا من الفقه في الدين، ومن هنا يفتح بابا كبيرا في الجهل بأحكام الدين. كما أنه بانغماسه في عالم الحقيقة وتحليقه في الأجواء الروحية قد أحدث في كيانه اضطرابا وخللا بين الجانب الروحي والجانب المادي لشدة اهتمامه بالأول وإهماله للثاني، مما أدى به إلى سوء فهم مهمة الاستخلاف في الأرض التي تعني إلى جانب العبادة المحضة، إعمار الأرض وبناء الدور والمؤسسات والاهتمام بالحرث والنسل.
قال الإمام ابن القيم مستنكرا قول الصوفية بأن هناك علما باطنا وظاهرا:
" ومن كيد الشيطان ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات وأبرز لهم في قالب الكشف من الخيالات فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلة وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقا ان سلكوه أفضى بهم إلى الكشف العياني وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء حتى ينقش فيه الحق بلا واسطة تعلم. فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الأباطيل وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا فإن أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة ولكم القشور ولنا اللباب فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات وأوهمهم أنها من الآيات البينات وأنها من قبل الله الهامات فلا تعرض على السنة والقرآن وأي تعامل إلا بالقبول والإذعان، وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم"[12].
ثم إن الأستاذ سعيد حوى إذا كان يقصد بقوله: " لابد من وجود علم التصوف كعلم يبحث عن أحوال الصحة والمرض للقلب...." طريقة أو منهجية منطقية لا علاقة لها بفلسفة التصوف وقواعده من مشيخة وسماع وشطحات وخرافات، فهذا في نظري – والله أعلم – لا يتعارض مع الدين لأننا أحوج ما نكون الآن إلى طريقة منهجية في دراسة أمراض النفس والبحث في عللها المزمنة والأخذ بيدها إلى عالم الطمأنينة والعافية. وفي هذه الحالة يستحسن – فيما أرى- أن تعوض كلمة التصوف بكلمة "علم السلوك الإسلامي" مثلا حتى لا يطغى مفهوم التصوف على مفهوم هذا العلم ولتلافي كف أوجه اللبس والخلط بينهما. هذا وينبغي أن يكون هذا العلم مجردا من نظام المشيخة والطرقية كما يستحب أن يستفيد مما يشتمل عليه التصوف من الحكم والآداب التي لا تتعارض مع الكتاب والسنة.
إما إذا كان مقصود أستاذنا إحياء علم التصوف بقواعده ومشيخته وطرقيته... مع تنقيحه، كما يقول، من الدخن، فإني مع احترامي لرأيه أرى أنه لم يوفق في اجتهاده.
إن تصوف الأوائل مع التزامهم ما استطاعوا بقواعد الدين يبقى تصوفا أملته الظروف والتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرفها المجتمع الإسلامي. وإذا كان واقعنا الآن مختلفا عن ذلك الواقع، لماذا نفتعل خلق ظاهرة التصوف على طريقة الجنيد أو أحد من المتأخرين؟ ولماذا لا نجتهد ونستوحي من الكتاب والسنة والتراث الفكري الإسلامي منهجية جديدة لإقامة قواعد للتربية الروحية ومعالجة أمراض القلب.
إن الأمة الإسلامية الآن بصدد يقظة قوية لا يختلف فيها اثنان ويشهد بذلك الأعداء، فيجب والحالة هاته أن ينصب الاهتمام على فكر البناء والإقلاع والانطلاق لا فكر رد الفعل والمواجهة السلبية عن طريق التحليق في عالم الواردات والإشراقات والانصراف عن شؤون المجتمع. هذا مع أن فكر البناء يجب أن يهتم هو الآخر بالجانب الروحي في موازاة مع اهتمامه بالجانب الاجتماعي. ولطالما جمع كثير من المصلحين المسلمين ومن المجددين العظماء بين بناء النفس وبناء المجتمع مثل الإمام ابن تيمية قديما والإمام الشهيد حسن البنا حديثا.


المراجع

[1] - حديث متفق عليه.
[2] - كامل الشيبي "الصلة بين التصوف والتشيع" دار المعارف مصر ص 269. 1992
[3] - انظر "الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/5)، مكة المكرمة 138.
[4] - "الفتاوى" (11/6-7)
[5] -"الفتاوى" (11/5)
[6] - عمر رضا كحالة "الفلسفة الإسلامية وملحقاتها" ط الحجاز بدمشق (1394) (ص213)
[7] - أحمد بن عجيبة الحسني (متصوف مغربي 1746-1809) "ايقاظ الهمم في شرح الحكم" دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت الجزء الأول ص 5و6.ج.ت.
[8] - أبو العلا عفيفي "التصوف الثورة الروحية في الإسلام"، بيروت ص.106.1982.
[9] - أبو حامد الغزالي"ميزان العمل" دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى، ص 40 د.ت.
[10] . ابن تيمية "مجموع فتاوى" / ج11 (التصوف)، مكة المكرمة ص 65. 1389هـ
[11] -سعيد حوى "جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما"، القاهرة ص 105-106. د.ت.
[12] - ابن قيم الجوزية ( 1/119) "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" دار المعرفة بيروت. ج.ت.


كلية أصول الدين تطوان

إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. لاشك أننا في حاجة ماسة وعاجلة لتقعيد علم الربانية او علم التزكية مباشرة من الكتاب والسنة كمصدرين وإئتناسا بمنتج التصوف عبر السنين كمراجع بهدف الإنطلاق اصلا من القرآن والسنة في إعادة بنا مفاهيمنا.وهذا يتطلب فريق عمل متخصص من مجالات معرفية مختلفة يعكف علي صياغة مفاهيمنا اعتمادا علي الكتاب والسنة ومن بينها التزكية او الربانية.اما استمرار الطرقية بشكلها الذي نشأ علي يد الشيخ عبد القادر الجيلاني واستمر حتي الآن بكل هياكلها من شيخ ومريد يزعم الجميع أن أمرهم مشيد بالكتاب والسنة فإذا ماتعمقت في قراءة صلاتهم علي الرسول مثلا لوجدتهم يتيهون في واد عميق وهوة ساحقة عندما يصفونه صلي الله عليه وسلم بالنور القديم وبعضهم يصل به الأمر الي اعتباره قديما بقدم الذات نفسها ولن تجد طريقة لو تعمقت في صلوات شيخها ومؤسسها علي الرسول تخلو من وصف النور المحمدي بالقدم..وهلم جرا.علي أي حال الأمر صعب ولكنه ليس مستحيلا لأن الطرقية بشكلها الحالي اصبحت مؤسسات في يد المؤسسة الحاكمة توظفها في دعم أركان حكمها بتقديم إسلام خلو من رؤية متكاملة يعتمد فقط علي الذكر الراتب علما بأن الذكر هو حياة متكاملة اتباعا لحضرة النبي صلي الله عليه وسلم في جميع مناشط الحياة

    ردحذف
  2. ٢- ولايعني نقدي لبعض اشكاليات الطرح الصوفي ان اشكك في مصداقية الشيوخ المؤسسين للطرق او ماقبل الطرق وبعدها فلربما دس عليهم ولربما اضرهم حب الاتباع الذين يضيفون مالام يقله الشيوخ كذبا لهم وليس كذبا عليهم وهو ماتم من الوضاعين في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم.علي اي حال لابد وأن يخضع التراث الصوفي بجملته للمراجعة والتقييم والتقويم بالكتاب والسنة كأحد متطلبات تأسيس علم التزكية انطلاقا من القرآن والسنة وبمفاهيمهما. ثمة تجربة قام بها الدكتور حسن الشرقاوي رحمه الله وبإشراف الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق يمكن ان تمثل احد المشاريع الملهمة لتأسيس علم التزكية الإسلامي وهي دراسته المساة نحو علم نفس إسلامي إشراف الدكتور عبد الحليم محمود ومناقشة دكتور مصطفي محمود...رحم الله الجميع.هدانا الله الي مايحبه ويرضاه

    ردحذف