كن رساليا

 كن-رساليا


الناس يولدون ويحيون ما شاء الله، ثم يموتون. منهم من يكون له أثر في حياته وبعد موته، ومنهم من لا أثر له وهم أغلب الناس.

وأعظم الآثار؛ الأعمال والمشاريع والإنجازات التي تتنفع بها البشرية، وخاصة تلك التي يجتمع فيها خير الدنيا والآخرة. وأفضل نموذج لهذه الآثار؛ آثار الرسل والأنبياء ثم الذين يلونهم من العلماء والمصلحين والدعاة والمربين الصادقين المخلصين.

إن الذين أرسوا قواعد الثقافات الإنسانية، وشيدوا الحضارات، وأقاموا العدل، ونشروا الأمن... هم أشخاص رساليون، لا ينقطع ذكرهم بعد موتهم، ويسجل التاريخ أعمالهم وإنجازاتهم بكل فخر واعتزاز. وما أعظم العلماء والمصلحين والأبطال الذين سرت روح إنجازاتهم في نفوس الناس على مر العصور والدهور، بل كانوا أعلاما ونماذج في مجال التربية والقدوة الحسنة.

إذا حدثتك نفسك بالانضمام إلى قائمة الرساليين، فكن على يقين أن طريقهم ليس مفروشا بالورود، بل مملوءا بالأشواك التي لا يتحمل وخزها وأذاها إلا أولوا العزم والإرادة الصلبة والهمة العالية.

إن الإنسان المسلم الراغب في شرف الوظيفة الرسالية أيا كان نوعها: قيادة أو إصلاحا أو تربية وتعليما أو دعوة... ينبغي له قبل الشروع في ممارسة تلك الوظيفة، أن يتسلح بالعلم والمعرفة، وأن يكون مطلعا على واقع المجتمع الذي يعيش في وسطه؛ أي الذي يشكل هدف تلك الوظيفة الرسالية. كما يكون قوي الإيمان، قلبه متصل بالله على الدوام، متحليا بالصبر والحلم، والتواضع والإيثار وسائر الأخلاق الحميدة، ويكون أيضا مثالا للتضحية والتفاني في سبيل تحقيق الرسالة.

وغني عن البيان أن الأمة التي يقل فيها الأشخاص الرساليون، تصاب بالجهل الذي يؤدي إلى ظهور الأمراض الفكرية والاجتماعية والنفسية، فتتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية، وتصبح عاجزة عن القيام بوظائف حياتها، فتبرز المشاكل السياسية والاقتصادية، وقد تنشب الصراعات والحروب بين أطراف مجتمعاتها، مما يجعل أعداؤها يطمعون فيها أو يستحودون عليها بطريقة أو أخرى، كما هو حال الأمة الإسلامية في وقتنا الراهن.

والغريب أن أعداء هذه الأمة من اليهود والنصارى، يكثر فيهم "الرساليون" المخربون. ورغم أنهم أهل شرك وباطل، فإنهم أخذوا بأسباب الدنيا، واطلعوا على طبيعة السنن والقوانين الاجتماعية، ورسموا الأهداف... فمارسوا الوظيفة "الرسالية" التخريبية، انطلاقا من فلسفتهم وتصورهم للحياة. وكانت النتيجة أن ملكوا زمام أمورهم، وظفروا بالقوة والسيادة في العلم والسياسة والاقتصاد...

في حين تخلفنا نحن، معشر المسلمين، عن المضي في المسيرة الحضارية التي أقام أسسها أجدادنا. لقد تمزقت سلسلة تلك المسيرة، وضاعت حلقاتها، وكسدت أسواق العلم والمعرفة، فأنى لنا والحالة هذه، بجيل من الرساليين يأخذون على عاتقهم النهوض بالأمة الإسلامية ؟

هذه الجملة الاستفهامية الأخيرة لا تدعو إلى التشاؤم، ولا تعني أن دور المسلمين قد انتهى كما يوهمنا بذلك أعداؤنا اليهود والنصارى ومن في ركبهم من المستغربين والعلمانيين والحداثيين العرب. بل على العكس من ذلك، ينبغي ألا نيأس من رحمة الله، ولا نستسلم لأوهما وإيحاءات الأعداء والمغرضين. فنحن خير أمة أخرجت للناس، أمة الرسالة لكافة الناس، ونحن الشهداء على الناس، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر كما ورد في القرآن الكريم. والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله يبعث على رأس كل مائة من يجدد دينها، وذلك كما جاء في حديث صحيح رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

هذا التجديد المشار إليه في الحديث يعبر عن الوظيفة الرسالية في أسمى معانيها. والخلاصة أن المسلمين اليوم مطالبون بإحياء الوظيفة الرسالية، والاقتداء بالسلف الصالح في ميدان الإصلاح والتجديد، مع الإلمام بفقه الواقع ومواكبة العصر.

 

د. عبد الله  الشارف، مكة المكرمة، ذو القعدة 1437- غشت 2016.

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. ياسين كارديدي26 يناير 2017 في 12:08 م

    في الصميم استاذي الكريم . من الصعب ان تكون رساليا الا اذا كنت على وعي بالمسؤولية المنوطة بك تجاه هذا الكون بكل ما فيه .لتؤدي مهمة الاستخلاف على اكمل وجه.
    تحياتي

    ردحذف