المعرفة الصوفية في الميزان





لقد كنت، أثناء ممارستي للتجربة الصوفية، مرتبطا بملكة خاصة، غير ملكة العقل المنطقي. تلك الملكة التي كانت تصلني ببعض الحقائق على نحو خاص، وتقوم فيها اللوامع والإشارات، مقام التصورات والأحكام والقضايا في المنطق العقلي. ويغمرني من خلالها شعور عارم بقوى تضطرم في باطني، كفيض من النور الباهر. ومن هنا كنت أشعر بإثراء في كياني الروحي، وتحرر في أفكاري وخواطري، وانطلاق لطاقات حبيسة عميقة الغور في نفسي.


إن هذه المعرفة الذوقية لم تكن قط عملا من أعمال العقل الواعي، ولا أثرا من آثاره، كما أنه لا شرط لتحققها في وجدان الصوفية غير شرط القانون الذي يحكمهم، ويمتثلون أوامره؛ وهو قانون المجاهدة ورياضة النفس، على طريقتهم ومنهجهم. فإذا هذه المعرفة إرادة، وإذا هذه الإرادة امتثال والتزام. وهكذا تصبح المعرفة الذوقية مظهرا من مظاهر الإرادة والوجدان والاتصال الروحي.


إن الأساس في تكوين التجربة الصوفية هو المجاهدة والرياضة الروحية، ثم الترقي في المقامات والأحوال، ولا تفهم الأحوال الروحية في عين التجربة بغير هذا الاعتبار. وما دام الأمر كله معلق على سلطان هذه الأحوال، فإن مستند الدعاوى التي يدعونها هو منطق الوجدان لا العقل. ولما كانت علوم ومعارف الصوفية يغلب عليها الذوق والكشف الصوفيين، كان من البديهي أن يتسرب إليها الزلل والدخن، ويسودها منطق الأهواء والبدع.


بيد أن هذا لا يمنع الباحث الحصيف والناقد المنصف، من ذكر الصفحات المشرقة من أقوال وكتابات الجيل الأول من الزهاد والمتصوفة المسلمين أمثال الحسن البصري، والفضيل بن عياض، ووهب بن منبه، وبشر الحافي، والحارث، المحاسبي، وأبو القاسم الجنيد وأبو سعيد الخراز، وغيرهم ممن عاشوا في القرنين الثاني والثالث للهجرة. فقد خلف هؤلاء الرجال من الأقوال حكما، ومن المعارف دررا ولآلئ، جادت بها قرائحهم وترجمتها ألسنتهم وسطرتها أقلامهم، يتذوق قارئها حلاوة معانيها، ويتنسم من خلال كلماتها صدق لهجة أصحابها، ومدى محبتهم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ومجاهدتهم في سبيل تزكية النفس وتربيتها والسمو بها، ومدى شغفهم بالزهد والعبادة، والتأمل والتدبر، والمراقبة والمحاسبة. لقد كانت ألفاظهم كالتباشير مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس تعبق بالراح والريحان، كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه، ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها.


إن هؤلاء الرواد الأوائل من الزهاد والمتصوفة قد أرسوا، بما خلفوه من تراث زاخر ينبض صدقا وحيوية، قواعد متينة وطرقا تتعلق بمجال تربية النفس وتزكيتها، ومداواة أمراض القلوب، والحض على طرق باب التوبة، ونبذ الرذائل والتحلي بالفضائل، ولزوم التقوى وتفيؤ ظلال الأنس والمحبة، مستأنسين ومسترشدين بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين من فقهاء وعلماء السلف الصالح. ثم إن هذا التراث الثمين الذي يعبر عن أدب الزهد والرقائق، يتناغم وينسجم مع روح الوحي وأسس الهدي القرآني، إلا أنه لا يخلو من هفوات وأخطاء ومزالق، وجب على علماء الأمة وفقهائها التنبيه عليها وإصلاحها.


أما فيما يخص التراث الصوفي المتعلق بالأجيال والقرون اللاحقة، فإنه قد ارتوى من عيون الفلسفة اليونانية، وعقائد اليهود والنصارى والفرس والهنود، ودبت في روحه نظريات الفيض والإشراق والحلول ووحدة الوجود، فأضحى تراثا لا علاقة له بزهد وتصوف الجيل الأول، وغدت الخيوط التي تربطه بالإسلام أوهن من خيوط العنكبوت.


ثم طلع نجم التصوف الطرقي، فازدادت الهوة اتساعا؛ حيث تعقدت التربية السلوكية بظهور نظام المشيخة الطرقية، فتعددت الطرق الصوفية، وتفنن الشيوخ في وضع القواعد والضوابط ذات الطابع التكليفي، وكذا إلزام المريد بأذكار وعادات وأعمال كثيرا ما تتنافي مع مبادئ السنة النبوية وروحها.


كما واكب تطور التصوف الطرقي، أدب نثري وشعري، ملئ بموضوعات تتعلق بمدح الشيوخ وتعظيمهم، وبشطحات تعبر عن حالات نفسية ووجدانية غير منضبطة؛ لا تخضع لعقل ولا شرع، أو موضوعات تركز على كرامات الشيوخ وقدرتهم على التأثير في النفوس، والتدخل في شخصية المريدين، وتوجيه إراداتهم. بل التدخل والتصرف في أمور أخرى لا داعي لذكرها، أو أذكار وأوراد وأحزاب من وضع الشيوخ، يتلوها ويرددها المريدون في زواياهم أو في بيوتهم كل يوم؛ وهي كلمات وصيغ، أو نصوص نثرية، إذا عرضت على الكتاب والسنة اتضح ضلالها وانحرافها.


د. أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف؛ "تجربتي الصوفية"، منشورات الزمن، الرباط 2011 ص؛174-175-176.

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. هذه التجربة الصادقة للدكتور عبد الله الشارف حفظه الله مع التصوف كشفت له الحقيقة التي ينكرها كثير من متصوفة الطرق الذين يتاجرون بتراث الصوفية الأوائل ممن ذكرهم د الشارف ومن قبله شيخ الإسلام ابن تيمية من أمثال الجنيد والحسن البصري والحارث المحاسبي وغيرهم
    متصوفة اليوم بجانب ما أدخلوه من العقائد الفاسدة المأخوذة من اليهود والنصارى والهنود والوثنيين مثل وحدة الوجود والحلول وكذلك الأوراد المخالفة للسنة وترؤس كثير من الجهلاء وتزعمهم للطرق وتحالفهم مع الساسة والحكام الظالمين والمفسدين
    كل ذلك يجعل نشر مثل تلك التجارب الصادقة للدكتور الشارف أمرا في غاية الأهمية لينتفع بها العقلاء من الفضلاء المنتسبين للتصوف
    جزاك الله د الشارف
    محبكم في الله د جمال تبيدي

    ردحذف