الدماغ لا يفكر




 إن القول بأن الدماغ يفكر، شبيه إلى حد ما بالقول بأن الطبيعة قد خلقت الكون . وهذا ما لا يقبله الإنسان العاقل المؤمن بالله ربا واحدا، مبدعا خالقا، لا خالق سواه.ولا شك أن انتشار بعض المفاهيم المتعلقة بالعقل مثل؛ العقل الأداتي، والعقل الآلي، والعقل الالكتروني، من المفاهيم التي تحوم حول تأكيد مادية العقل؛ أي أنه مجرد إفراز مادي؛مصدره بنية مادية تنحصر في الدماغ لا غير. بمعنى أن هيمنة هذه المفاهيم وهذا التصورالأخير عن العقل الإنساني، هو الذي جعل الإنسان الغربي ومن يدور في فلكه، يسند إلى الدماغ وظيفة التفكير. ولا شك أن الاقتناع بهذا التصور يجسد النتيجة النهائية، والثمرةالمباشرةللمجهودات الفكرية والفلسفية، التي قامت بها أجيال من الفلاسفة والعلماء والأطباءالأوربيين، بدءا من عصر التنوير، خلال ما يقرب من ثلاثة قرون.بيد أن هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والعلماء، اندفعوا وهم يبحثون، في اتجاه إنكار كل الحقائق المتعلقة بعالم الروح والدين والإله الخالق،وذلك ردا على موقف الكنيسة المتشنج من العلم والعلماء، واضطهادها لكل من يشكك في مبادئها.


إن إنكار ونبذ الحقائق الروحية والدينية، لم يكن نتيجة دراسة متمحصة وعلمية نزيهة، وإنما نتج عن صراع حاد وانفعالي بين المفكرين والعلماء الأحرار، وبين القساوسة ودهاقنة الكنيسة؛ أي أن الإنكار حصل في غياب تام للروح العلمية.


إن الانعكاسات السلبية للصراع المشار إليه، بين رواد الفكر التحريري العقلاني والكنيسة الكاثوليكية، ما زالت آثارها قائمة ومهيمنة في باطن ولا شعور الإنسان الغربي ذي الميول المادية اللادينية. ولا عجب أن يتصلب ويجمد هذا الإنسان في موقفه، ويثبت على ذلك أجيالا وقرونا. فشأنه في ذلك شأن من دعي إلى الإيمان بالله وتوحيده، فقال: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" (الزخرف 23). إنها السنن والقوانين الاجتماعية التي تتحكم، بمشيئة الله، في مصير المجتمع، عندما يختار أفراده، أو على الأصح؛ حكامه وأقوياؤه ومثقفوه، مسلكا أو طريقا في التفكير والحياة، فتتوارث الأجيال ذاك المسلك الذي يغدو مع الزمن من الثوابت الراسخة المقدسة.


وهكذا فإن التمسك بموقف الإنكار للحقائق الدينية والغيبية والروحية، ما زال يغذي إلى يوم الناس هذا مختلف الأبحاث العلمية المنجزة في الغرب، والمتعلقة بالكون والإنسان. ثم إنك لو جئتهم بكل آية ودليل، ما استمعوا لك، فقد علا الوقر آذانهم، وتمكن الإلحاد من قلوبهم، وإذا اهتدى أحدهم وأسلم، رموه بالحماقة والسخف.


إن إسناد التفكير إلى الدماغ يرجع بالدرجة الأولى إلى نتائج ذلك الصراع بين العلماء وأصحاب الكنيسة، وإلى الإطار الفكري الفلسفي المادي المشار إليه. كما يرجع من ناحية أخرى إلى أخطاء منهجية و علمية دقيقة. من بينها؛ عدم التمييز  بين القدرات  الذهنية والطا قة الدماغية. ذلك أن القدرات الذهنية، على الرغم من صلتها بالدماغ، تتميز بكونها قدرات بشرية متعلقة بكائن حي ذي كيان إنساني، وأوصاف وأبعاد معنوية يستحيل لمسها أو إخضاعها لتجارب مادية.


إن الذهن أو العقل موجود معنوي وروحي في جوهره وقدراته، في حين أن الدماغ عضو بيولوجي في جوهره وقدراته ووظائفه. ومن هنا فإن الدماغ لا يحتوي القيادة الذهنية والعقلية، وإنما هو كتلة بيولوجية تتجمع فيها المراكز العصبية لفاعليات وأنشطة الجسم البشري. نعم إن الدماغ يشكل مركز القيادة للبنية الجسمية، لكنه لا يشكل مركز القيادة للبنية الذهنية والعقلية، بل إن قيادة الدماغ للبنية الجسمية المتعلقة بالسلوك الإرادي لا تتحقق إلا تحت أوامر القيادة الذهنية. أما الحركات اللإرادية كدقات القلب وحركة المعدة، فعلاقتها المادية والعصبية بالدماغ واضحة، والكل تحت مشيئة الله وقدرته وعنايته، سبحانه ما أعظمه. وهكذا فإن الماهية الروحية للإنسان تهيمن بصفاتها وقدراتها، على صفات بنيتها الجسمية، لتوجيه العمل الوظيفي الدماغي لخدمة حياة الإنسان ونشاطه.


وفيما يخص التفكير يمكن القول؛ إن نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس، إلى المراكز الحسية الدماغية، لا يحصل منه فكر مطلقا، والذي يحصل نتيجة هذه العملية هو الإحساس فقط، فلا بد من وجود وتوفر المعلومات السابقة في ذهن الإنسان أو قلبه، عندما تجري فيه عملية تفسير الواقع المحسوس، فيحصل تفكير وينتج فكر.


إن خصائص الطاقة القلبية أو العقلية توجد في الإنسان بوصفه كيانا لا بوصفه كتلة عضوية بيولوجية. فالإنسان هو الذي يحس، وهو الذي يشعر، وهو الذي يفكر ويعقل.


وفي هذا الصدد يقول د. هشام البدراني:


"إن إدراك مفهوم الحياة والإنسان واقعيا، يحتم بحث الإدراك والعقل والتفكير على غير طريقة النفسانيين، حيث يصب البحث على واقع العقل وواقع التفكير، وليس على الأعضاء والوظائف الجسمية... إن الدماغ ليس عضوا للتفكير وما ينبغي أن يكون للتفكير عضو غير الإنسان بوصفه كلا لا يتجزأ. وبهذا يتأكد لنا أن القائم بالتفكير هو الإنسان وليس عضو أو مجموعة أعضائه الجسمية."[1]



1-هشام البدراني: "مفاهيم علماء النفس؛ دراسة وتقويم"، دار البيارق، عمان الأردن 1998/ ص 101-102.



د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب/ ربيع الأول 1434/فبراير 2013.





















إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. محجوبة لعوينة7 فبراير 2013 في 7:34 ص

    يقول ايديسون( ان المحتمع لايمكن أن يقبل الافكار الجديدة ، لذلك نرى أن الاختراعات لابد أن تنتظر أوقاتا كثيرة قبل أن يقبلها الناس ويكون هذا القبول من كثرة سماعهم لها ) وسبب بسيط فكل فكرة تحتاج الى تفكير لان قبول الانسان للافكار الجديدة التى تطرحها أستاذي بكل هذه الجرأة تجعله يعتقد أنه جاهل فتأخذه العزة بالاثم كما فعل كفار قريش .
    انك حقا مبدع أستاذي الفاضل مبدع في محاضراتك كما في مقالاتك .

    ردحذف
  2. TYVM you've solved all my porlbems

    ردحذف