التحليل النفسي والاتجاه نحو الأسفل



يتسم علم النفس الحديث، وخاصة التحليل النفسي، بتركيزه على الجانب الأسفل من النفس، فنجد أن المستوى الشعوري عند الفرد لا يفهم، ولا تتحدد بنيته، إلا انطلاقا من مستويات سفلى، تلك المستويات التي يوجد الإنسان مقسورا في إطارها الجبري، حيث يعجز أن تكون له إرادته الخاصة القادرة على الاختيار والتغيير. وتتكون هذه المستويات بطبيعة الحال من البنيات اللاشعورية كما يعرفها فرويد. وكان من نتائج هذه الفرضية أن الحالات النفسية تكون سفلى بقدر ما كانت عميقة.

إن الهوحسب فرويد، هو الجانب اللاشعوري من النفس، الذي ينشأ منذ الولادة ويحتوي على الغرائز التي تمدنا بالطاقة النفسية اللازمة لعمل الشخصية بأكملها. فهو جانب غريزي غير خاضع لتأثير المجتمع والأخلاق، وهو دائم السعي للحصول على اللذة وتجنب الألم، ويخضع لمبدأ اللذة وليس لمبدأ الواقع. وهو الذي يمد الجانبين الآخرين: الأنا، والأنا الأعلى، بالطاقة اللازمة لعملياتهما.

ويمثل اللاوعي مجموع الرغبات التي قام الأنا بكبتها ودفعها لعمق الحياة النفسية تحت تأثير الأنا الأعلى من جهة، وما ترسب من ذكريات الطفولة السيئة من جهة ثانية.وتكمن خطورة اللاوعي في كونه يضل فاعلا في حياتنا النفسية دون أن تكون لنا القدرة على إدراك حقيقة حضور هذه الدوافع اللاواعية، وهو ما يكون سببا في حدوث المشاكل النفسية بالنسبة للفرد.

ومن هنا يذهب فرويد إلى أن التحليل النفسي يقوم على أساس التسليم بنطرية العقل الباطني، التي تفرض تقسيم الحياة العقلية إلى الشعور واللاشعور، وأن تفكيرنا وتصرفاتنا الشعورية ما هي إلا نتيجة للعمليات اللاشعورية التي تحدث في العقل الباطني، وتكون مستقلة عن إرادتنا.
إن سيادة وانتشار هذا التفسير النفسي المنطلق من المناطق السفلى في النفس، أدى إلى إبعاد الروح كعامل أساسي في فهم وتكوين باطن الإنسان.ومن هنا فإن علم النفس الحديث في الغرب المعاصر، لا يعير الروح اهتماما، بل لا يعترف بوجودها. وعلى هذا الأساس فإن الاعتماد على معطيات هذا العلم، والرجوع إليها قد يكون، في كثير من الأحيان، عملا غير سليم.
إن علم النفس الحديث يهتم بالدرجة الأولى بدراسة إنسان الحضارة الغربية، وإذا ما حاول أن يدرس ويحلل إنسانا لا ينتمي إلى هذه الحضارة، فإنه كثيرا ما يفشل في مهمته، لأن المقاييس التي يعتمدها ذاتية، وضعها وصاغها الإنسان الغربي ليستعين بها على تحليل ذاته، وذاته لها خصوصيات معينة، كما أنها بلغت حدا بعيدا من التعقيد، مما استلزم إيجاد وسائل، ومقاييس، ومناهج خاصة. بالإضافة إلى أن القطيعة الروحية التي أصابت أوربا عقب الثورة على الكنيسة، والثورة الفرنسية، والثورة الصناعية، أفرزت إنسانا يكاد يكون شاذا، لم تعرف الحضارات السابقة شبيها له. في حين أن الإنسان المسلم لم يعرف حالة القطيعة الروحية، ولا الحياة المادية المستلزمة لعلم النفس بالمقياس الغربي، فالمسلم كما نعلم له اختيار حضاري من طراز رفيع يربط الأرض بالسماء، وله سلوك فريد من نوعه يتحدد من خلال ذلك الاختيار.

إن الإسلام يعالج قضايا النفس الإنسانية من الأسفل إلى الأعلى، في حين أن علم النفس الغربي يعالج تلك القضايا في اتجاه المنطقة السفلى، فالوحي حين يخاطب النفس البشرية ويتوجه إليها بالتربية والعلاج، يأخذ بيدها فينتشلها من منطقة الظلام، ومن أوساخ طينة الجسد، ويعرج بها إلى صفاء العالم الروحي. في حين أن علم النفس الغربي الحديث، والتحليل النفسي بصفة خاصة، كثيرا ما يأخذ بيد النفس فينتزعها من منطقة العقل، ويهوي بها إلى أعماق المناطق المظلمة والحيوانية في الذات البشرية، ومن هنا كان مفهوم اللاشعورأو الهو مثلا، أكثر المفاهيم النفسية تعبيرا عن هذا الاتجاه من الأعلى إلى الأسفل.

وإذا كان العروج بالنفس الإنسانية إلى العالم العلوي يجعلها تداعب النفحات الملائكية، فإن الانحدار بها في أودية المناطق المظلمة، يسقطها في عالم الشياطين والتأثيرات الشريرة، مصداقا لقوله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"( سورة البقرة، آية 257).

د. عبد الله الشارف، كلية اصول الدين/ تطوان المغرب، ذو الحجة 1422/أكتوبر2012.

إرسال تعليق

1 تعليقات