أشجان وحسرات



 

وحدي، وحدي....
اركب هذه السفينة للمرة الثلاثين أو الأربعين...لست أذكر.
انظر إلى وجوه كالحة كوجهي، إنهم مثلي؛ بؤساء تعساء. بعد دقائق ستطأ أقدامنا رصيف ميناء طنجة.
لا أحد يستقبلنا، لا أحد يبتسم لنا، لا أحد يضمنا إلى صدره، كنا غرباء، بقينا كذلك وسنموت غرباء هنا أو هناك.
في السنوات الأولى، كان الأصدقاء والأقرباء والجيران يفرحون لقدومنا، بل ينتظرون عطلة الصيف على أحر من الجمر، نحمل لهم الهدايا المتواضعة فيفرحون، ويجلسون معنا الساعات الطوال، نستمع إلى حديثهم كما يستمعون إلى أخبارنا، أين هم الآن؟!!
بل أين أنا؟ وأين أولادي وأحفادي الصغار؟!! آه كل شيء انتهى.
كلهم ذهبوا عني، وفروا مني فرارهم من المجذوم. لم أعد أصلح لهم، رائحتي تؤذينهم، لغة بلادي أصبحت ......آذانهم، استبدلوها بلغة فرنسا عادات بلادي وتقاليدها أدخلت إلى متحف اللوفر، وأقفل عليها. ديني ودين أجدادي يستهزئون به، ويرمونه بالتخلف والإرهاب والرجعية.
إنهم يريدون مسح العار، والانسلاخ من كل الآثار الدالة على أن أصولهم عربية أو إسلامية!!
نبذوني، لأنني شؤمهم وعارهم، وسبب مأساتهم. لطالما سخر منهم زملاؤهم الفرنسيون في المدارس والأزقة.
نبذوني، شتموني، أهانوني...
ها أنا ذا وحدي على ظهر السفينة، ليتها كانت سفينة النهاية، سفينة الموت.
أرى الآن، المسافرين يستعدون لمغادرة السفينة، لا يفصلنا عن رصيف الميناء، إلا بعض المئات من الأمتار.
سبحان الله، كم هي جميلة شمس بلادنا! كم هو نقي وعليل نسيمها وهواؤها! ....

ما أجمل هذا الصوت الذي اقتحم على غرفتي وأوقف تولد هواجسي وأحزاني، إنه صوت المؤذن الندي يدعو المسلمين لصلاة العصر، سأتوضأ بسرعة ثم اتجه نحو المسجد القريب من الفندق.
بعد دقائق معدودة كنت بباب الجامع الكبير، فوجدت المصلين مصطفين قد كبروا تكبيرة الإحرام، فأخذت مكاني في الصف الثاني وكبرت وشرعت في قراءة الفاتحة، فإذا بعيني تدمعان ثم أحسست بقشعريرة تذب في جلدي، وعندما هويت إلى الأرض ساجدا تملكني انكسار نفسي عميق، فسبحت الله ثم أكثرت من الاستغفار، وبعد تسليم الإمام والفراغ من الصلاة لم أستطع مغادرة المسجد .....شعرت بطمأنينة تغمر كياني فآثرت المكوث فيه وانزويت في ركن من أركانه، خرج الناس وبقي عدد قليل بعضهم أخذ المصحف الكريم، وبدأ يقرأ، والبعض الآخر استند إلى سارية من سواري المسجد واستغرق في الذكر أو التأمل. ومنهم من اضطجع على جنبه. ويبدو أن كثيرا من المساجد العتيقة في كل المدن المغربية، تظل أبوابها مفتوحة بين الصلوات؛ حيث يحلو لكثير من المصلين التنعم بالجلوس فيها، طلبا للذكر والراحة، أو هروبا من صخب الحياة وضوضاء المدينة.
أطلقت العنان لخيالي فانهالت علي الخواطر من كل حدب وصوب؛ تارة أسبح في عالم الطفولة البريئة، وتارة أتذكر أسفاري الأولى إلى فرنسا، ومعانات الغربة، وتارة أخرى تقفز إلى مخيلتي، صور ومشاهد متعلقة بحياتي وحياة أبنائي وأحفادي الصغار، فأشعر بضيق في صدري يمنعني من التنفس الطبيعي.
آه، ليتني لم أسافر إلى فرنسا، ولم أغترب!
ليتني لم أتزوج، ولم أرزق أولادا ولا أحفادا!
هذا أمر، جاش في صدري، فضعضعني وهد كياني، وسيصاحبني ويلازمني ملازمة الظل للشيء، إلى أن أوضع في قبري.

د. عبد الله الشارف، تطوان المغرب/ ربيع الثاني 1433- مارس 2012

إرسال تعليق

8 تعليقات

  1. اشتقنا لمثل هده الابداعات...(تلميدك في اعدادية محمد الفاتح)

    ردحذف
  2. جزاك الله خيرا

    ردحذف
  3. جزاك الله عنا خيرا

    ردحذف
  4. محمد البقالي5 يونيو 2012 في 3:55 م

    يا الله كلام نابع من القلب يقطع نياطه ويوحي للقارئ أنه بين يدي طه حسين بين ثنايا أيامه جزاكم الله كل خير أستاذنا الفاضل

    ردحذف
  5. جزاكم الله خيرا يا أستاذي الفاضل

    ردحذف
  6. اشرف الخباز23 مارس 2013 في 6:46 م

    والله ادمعت عيناي و انا اقرأ ما كتبته يا استاذنا الفاضل اطال الله في عمرك

    ردحذف
  7. هل من لسان يعبر عن شكرك؟هل من كلمات تتساقط؟اجل يا معلمي منك استفدنا أفكارا ثمينة كقطرات شتاء ذهبية خالصة ..لك مني اعظم الشكر على نصائحك القيمة لطالما نصحتنا دائما وخاصة مع بداية الحصة الأولى الدراسية ،تشجعنا يا استاذي كما شجعت دائما اولادك..قلبك طيب وانت مفكر وباحث ..فالله اعطاك قبولا وهيبة وجمالا وذكاءا وثقافة ومحبة ..اتمنى ذات يوم أن أصبح مثلك تماما،اتمنى أن تزول المعاناة والألم ،وندعوا الله أن يعطينا من علمه قليلا فعلمه تعالى لا مكان يتسع له ولا زمان فعلمه مطلق.شكرا جزيلا دكتور الشارف فانت نموذج للاستاذ ذو ضمير مهني عادل .

    ردحذف