رؤية شرعية ومقاصدية في موضوع الهجرة إلى البلدان الغربية

تمهيد
تعتبر الهجرة إلى البلدان الغربية من أشد الظواهر والقضايا الاجتماعية المعاصرة تعقيدا وخطورة. وإذا رجعنا إلى تاريخ ما قبل الاستعمار،
نكاد لا نجد أثرا لهذه الظاهرة، اللهم إذا استثنينا بعض التجار المسلمين من المغاربة وغيرهم، الذين كانوا خلال القرن التاسع عشر الميلادي يقيمون في بلدان الغرب من أجل التجارة. وكانت إقامتهم تتراوح ما بين بضعة شهور وبضع سنوات. لكنهم لا يستقرون نهائيا في تلك البلدان[1]. وكذلك الجزائريون الذين تجندوا في الجيش الفرنسي أثناء الحرب الروسية الألمانية على فرنسا سنة 1870 م، ثم أولئك الشباب الذين قدموا إلى فرنسا من دول شمال إفريقيا وشاركوا في الحربين العالميتين.
وعندما غزا المستعمر بلادنا وأخضعها لسلطانه، بعدما استباح الحمى وانتهك الحريم وجاس خلال الديار، ثم احتك غزاته بالمسلمين، وخالطوهم وجاوروهم، وسادت عوامل التأثير والتأثر والتفاعل الاجتماعي والمثاقفة، بدأ الحجاب يرق بين أفراد الطرفين، وظهرت بعض بوادر الإعجاب والانبهار بالأجنبي المستعمر رغم ظلمه واستعماره، تأكيدا لقاعدة : "المغلوب مولع بتقليد الغالب"[2]. وطفق التقليد يسري في كيان المسلمين سريان النار في الهشيم، خاصة في أوساط بعض الأسر الغنية التي كانت كثيرا ما تقيم علاقات اقتصادية وتجارية مع المستعمرين ، كما ترسل أبناءها إلى مدارسه.
وبعض رحيل المستعمر ، اشتد الإعجاب بالأجنبي حتى أصبح مكشوفا، وسارعت جل حكومات الدول العربية المستقلة، إلى عقد معاهدات واتفاقيات تعاون مع الحكومات الأوربية في ميدان السياسة والاقتصاد والتربية والتعليم. فقويت العلاقة بين الجانبين، وترعرعت ظاهرة الاستغراب[3] في المجتمعات الإسلامية، كما اشتدت وطأة الغزو الفكري والتغريب مما جعل كثيرا من أفراد هذه المجتمعات كتلا بشرية منفعلة وقابلة لأن تستخدم في مصالح الغرب.
وعندما أرادت فرنسا تعمير بلدها، وإعادة بناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية، أبرمت الاتفاقيات مع حكومات المغرب العربي، تهدف إلى استقدام عدد من الشباب المغاربيين للعمل في قطاع البناء والطرق والمعامل الفرنسية، وهكذا هاجر إلى هذا البلد الأوربي عشرات الآلاف من الأيدي العاملة المغاربية.
بقيت الهجرة متدفقة إلى منتصف السبعينيات من القرن العشرين الميلادي، ثم بعد ذلك بدأ التقلص والانحسار أو العد العكسي. واستقر المهاجرون المغاربيون في أوربا، وتلاشى حلم الرجوع بعد مضي العقد الأول والثاني. واستدعى المتزوجون منهم أفراد أسرهم، وتزوج الباقون، وظهر الجيل الثاني ثم الثالث، ونحن الآن على أبواب جيل الرابع. وأصبح المهاجرون وأبناؤهم وأحفادهم جزءا لا يتجزأ من المجتمعات الأوربية. لكن ما كان يبدو للمهاجر عسلا استحال حنظلا.
فما أن استقر في بلد الغربة، حتى بدأت المشاكل تشرئبُّ بأعناقها وتلسعه بسمومها، وعلى رأسها العنصرية التي ازدادت حدة وشراسة، وما زال المهاجرون يكتوون بنارها . وقبل الزواج كانت مشكلة العزلة والوحدة، وبعده أو بعد اجتماع الأسرة، برزت مشكلة الصراع بين الآباء والأبناء؛ أي الصراع بين ثقافتين، إذ يميل الآباء إلى الثقافة الأصلية، بينما ينجذب الأبناء إلى ثقافة أوربا. وليس هناك هم أشد ألما في قلوب الآباء المهاجرين من هم أبنائهم وأحفادهم. وإنه لواقع مر وأزمة تستعصي على العلاج، وإنه لمما يدمي القلب ويمزق الكبد والأحشاء، أن يحس كثير من المهاجرين الآباء بنفور أبنائهم، أو هروبهم وذوبانهم في المجتمع الغربي، ، بل منهم من تبنى الهوية الأوربية المسيحية وتنكر لهويته العربية الإسلامية أو انسلخ منها، كما حدث في الأندلس قبل بضعة قرون.
نعم، إنها لهواجس ومخاوف نفسية رهيبة، تسكن قلوب المهاجرين الآباء. لقد بدأ ناقوس الخطر يدق... نعم، إن القوانين والسنن الاجتماعية ثابتة ومطردة، ولا تتخلف. فما أصاب هؤلاء المهاجرين كان نتيجة حتمية لأسباب اجتماعية وسياسية محددة. كما أن عامل ضعف الإيمان والعقيدة له دور أساسي في هذا الشأن.
الهجرة إلى بلدان الغرب ومقاصد الشريعة

تهدف مقاصد الشريعة إلى حفظ النظام العام من خلال تحقيق المصالح وإبطال المفاسد. وقد قسم علماء الإسلام المصالح إلى ثلاثة أنواع :
1.  المصالح الضرورية : وهي التي اصطلحوا على تسميتها بالكليات الخمس، وهي : حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
ولا يمكن أن توجد حياة إنسانية لها معنى إلا بالمحافظة على بقاء هذه الكليات. ولذلك كان المقصد الأول للشريعة إقامتها، ودوامها. وكان القرآن الكريم أصلها، والشاهد لها[4]. وهذه المصالح ليست على مرتبة واحدة من حيث ضرورتها، ذلك أن حفظ الدين يقدم على حفظ النفس، وأن حفظ النفس يقدم على حفظ المال وهكذا...[5]
وتعد هذه المقاصد الضرورية الخمسة من أصول الدين، ويأتي حفظها بعد تحقيق الدين، ولذلك جاء بها الرسل جميعا ولم يختلفوا في شيء منها. ويحدد أبو إسحاق الشاطبي منزلتها فيذكر أنها؛ "أصول الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة"[6]. بحيث ان تطرق الفساد إلى بعضها يؤدي إلى هدم الدين كله، لأن صلاح الدينا قائم عليها، كما أن النجاة في الآخرة لا تكون إلا بالمحافظة عليها[7].
2.  المصالح الحاجية : وهي التي لابد منها لقضاء الحاجات كتشريع أحكام البيع، والإجارة، والنكاح، وسائر ضروب المعاملات. "وتأتي المصالح الحاجية في مرتبة ثانية بعد المصالح الضرورية لأنها تابعة لها ومحققة لأغراضها"[8].
كما تشتمل الحاجية على الرخص، وكل ما فيه تيسير وتوسعة لتمكين المكلف من القيام بما كلف به.
3.  المصالح التحسينية : وهي كل ما يعود إلى العادات الحسنة والأخلاق الفاضلة، والمظهر الكريم، والذوق السليم، مما يجعل الأمة الإسلامية أمة مرغوبا في الانتماء إليها والعيش في أحضانها[9].
والمصالح التحسينية راجعة إلى المصالح الضرورية مثل ما رجعت إليها المصالح الحاجية، إذ المصالح الضرورية هي الأصل.
وإذا نظرنا إلى هجرة المسلمين في بلاد الغرب من خلال المصالح الضرورية، أو الكليات الخمس، ألفيناها لا تنسجم ولا تستجيب لمبادئ وأهداف ومقاصد الشريعة، لأنها تتعارض على الأقل مع ثلاثة من أركان الكليات الخمس وهي : الدين، والنفس، والنسل.
فمن حيث الدين، نجد أن المسلم المقيم في الغرب معرض لضياع دينه عقيدة وأخلاقا، إذ يصعب عليه أداء الصلوات الخمس كما يؤديها المسلمون في بلادهم، نظرا لأنه لا يسمع الأذان، كما أن المساجد أو أماكن الصلاة قليلة ولا توجد في جميع الأحياء، بل في أحياء معينة، فيتعذر على المسلم هناك، أن يصلي صلواته الخمس في جماعة. ولذا فإن جل هؤلاء المهاجرين لا يجتمعون في المسجد إلا يوم الجمعة.
وإذا كان المهاجرون الأوائل يحرسون على أداء صلواتهم كيفما تيسر، فإن هذا الحرص ضعيف جدا عند أبنائهم من الجيل الثاني، ويكاد يكون منعدما لدى أبناء الجيل الثالث ، نظرا لأنهم أشربوا عادات الغربيين ونشأوا بين أكنافهم، ونطقوا بلسانهم ولغتهم، وتأثروا بالحياة الغربية ومبادئ التربية العلمانية. وكذلك الشأن فيما يتعلق بباقي الأركان الدينية الأخرى من زكاة وصوم وحج.
وقد لوحظ في السنوات الأخيرة، مع تطور ظاهرة "الإرهاب"، أن كثيرا من أبناء الجيل الثالث والرابع يحملون أسماء غير إسلامية، ويحرصون عن الابتعاد عن كل ما يمت بصلة إلى الأصول والملامح والمميزات الأصيلة، تعبيرا عن النفور من الهوية العربية والإسلامية، وابتعادا عن "تهمة التدين" !!، وطمعا في رضى النصارى والظفر ببعض الوظائف. كما كثر زواج واقتران بنات المهاجرين المسلمين وحفيداتهم بالأوربيين، إلى غير ذلك من المظاهر والسلوكات التي توحي بالانسلاخ من الدين الإسلامي. وقد تطور أيضا عند كثير من أفراد الجيل الأول ميل قوي إلى إخفاء هويتهم الدينية، وطمس ما تبقى في شخصيتهم من سمات الإسلام وعلاماته، لعلهم بذلك يسلمون من سهام الحرب النفسية الموجهة ضدهم بسبب خصوصيتهم الدينية والعرقية.
وإذا انتقلنا إلى الركن الثاني من أركان الكليات الخمس، وهو ركن النفس، وجدنا أن العامل المسلم المهاجر في بلاد الغرب قد بذل وسعه وطاقته في توفير الحاجيات الضرورية من غذاء ولباس ومسكن وعلاج ، وما إلى ذلك مما له علاقة بالجانب المادي في حياته، في حين أنه أغفل المقومات الروحية والمعنوية للنفس وركائز الشخصية المريدة والفاعلة. كما نسي أن الله عز وجل خلق الإنسان وألبسه ثوب الكرامة وفضله على كثيير ممن خلق، وميزه بالعقل والعلم والبيان، وخص المؤمنين بالعزة والرفعة مصداقا لقوله تعالى؛ "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"[10].
لقد أنزل مهاجرنا المسلم بنفسه من الذل والهوان ما لا يليق به وبكرامته باعتباره مسلما. وكفى بالعنصرية البغيضة التي يعانيها دليلا على كونه مهمشا، ومحتقرا، وضعيفا، وعرضة للاستغلال والازدراء والإهانة، والتهمة والطرد، وللسلوكات الوحشية التي كثيرا ما أودت بحياة بعض المهاجرين. كما أن ولاءه للغربيين وللقوانين الوضعية يؤثر في نفسه أيما تأثير، بحيث يخضع لسلطانهم وأحكامهم، تلك الأحكام التي غالبا ما تتعارض مع أحكام الدين الإسلامي. إن هذا الظلم الذي أنزله بنفسه، وبأهله الذين يتحمل مسؤوليتهم، بسبب إقامته بين ظهراني المشركين وخضوعه لهم، وقبوله لشروطهم، وحبه، وتقبله، واستحسانه لكثير من أفكارهم وعاداتهم، كل ذلك يوحي بل يثبت بأن جل مهاجرينا المسلمين في بلاد الغرب، لم يعملوا على حفظ النفس وصونها وتكريمها كما أمر الشرع الحكيم. والنفس أعظم أمانة ووديعة أمرنا الحق سبحانه وتعالى برعايتها والحفاظ عليها، ثم ردها إليه عزيزة ومصونة مثلما أودعنا إياها.
أما فيما يتعلق بركن النسل، فإن الأمر أدهى وأمرُّ. ذلك أن معظم أبناء هؤلاء المهاجرين وأحفادهم، قد اختلطوا بأبناء النصارى اختلاط الحابل بالنابل، وتزوجوا منهم، وتناسلوا، فظهر نسل جديد مخضرم على طريقة أوربا، التي يكثر فيها أجناس بشرية من شتى بقاع الأرض. نسل محكوم عليه، إلا من رحم الله، بالذوبان والتلاشي والانصهار في بوتقة المجتمعات العلمانية المادية؛ حيث تنعدم شجرة الأنساب، ودوحة الأرحام، ووشائج القرابة، ودفء العشيرة. فلا قريب ولا نسيب ولا حميم، ولا عمومة ولا خؤولة ولا أصهار. ولسان حالهم قولهم: وما هي إلا بطن تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر. أبناء وأحفاد يربطهم بتاريخ ودين آبائهم وأجدادهم خيوط أوهى من خيوط بيت العنكبوت.
ولست أبالغ إذا قلت إن الكليات الخمس عند المسلمين في بلدان النصارى قد أصابها تصدع وتمزق، وانحراف خطير، وما لم يبادر هؤلاء المهاجرون إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن العاقبة ستكون وخيمة، ولن ينفع ندم بعد فوات الأوان. ورب قائل يقول: هذا أمر لا يرتق فتقه، ولا يلأم صدعه.
لقد كان مهاجرنا المسلم، وهو يغادر وطنه إلى أوربا، ينوى تحقيق مصلحة دنيوية. لكنه تجاهل أولم يتفطَّن للمفسدة الدينية التي قد تترتب عن جلب تلك المصلحة. ومن القواعد الفقهية الثابتة في الفقه الإسلامي؛ قاعدة؛ "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
والأدهى والأمر أن الرغبة الشديدة في الحصول على المال أعمت بصيرة كثير من الشباب المغاربة، وجعلتهم يركبون القوارب الصغيرة، ويلقون بأنفسهم في عرض البحر لكي يصلوا إلى شواطئ إسبانيا. وكثيرا ما تحدث الفاجعة حيث يلقوا حتفهم بين الأمواج المتلاطمة.
والخلاصة أن عاملنا المسلم المهاجر في الغرب قد أخطأ عندما قدم حفظ المال على حفظ الدين والنفس والنسل، وفضل الدنيا على الآخرة.
لقد جاءت الشرائع السماوية كلها لرفع الحرج عن الناس، ودفع الضرر، وتحقيق مصالح العباد، ولتحل لهم الطيبات وتحرم عليهم الخبائث، ولتصلح شؤونهم في العاجل والآجل. وإن معرفة مقاصد الشريعة المتضمنة للمصالح الضرورية والحاجية والتحسينية والعمل بها، يجعل المسلمين يحيون حياة العزة والسؤدد والطمأنينة والسعادة، ويحققون غاية الحق من الخلق بتحقيق المفهوم الشامل للعبادة الكاملة الحقة.


مجلة "النور"، عدد 458، فبراير 2009 تطوان المغرب


[1] - انظر"الاستيطان والحماية بالمغرب 1863-1894" لمصطفى بوشعراء ، المطبعة الملكية،الرباط، 1984، ج1 ص61.
[2] - انظر "مقدمة " ابن خلدون ، الفصل الثالث والعشرون: "في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته،وسائر أحواله وعوائده.
[3] - "الاستغراب ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسدونها بالميل نحو الغرب والتعلق به ومحاكاته. نشأت في المجتمعات غير الغربية ـ سواء أكانت إسلامية أم لا-على إثر الصدمة الحضارية التي أصابتها قبيل الاستعمار وخلاله ". انظر "الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر" لعبد الله الشارف، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب تطوان، طوب بريس، الرباط، 2003. ص 30,
[4]- أبوإسحاق الشاطبي، " الموافقات في أصول الشريعة"،ج1 ص 13 ، تحقيق محمد عبد الله دراز، المكتبة التجارية الكبرى، مصرد.ت.
[5] أبو إسحاق الشاطبي ؛ "الاعتصام"، ج 2، ص : 38. ط. الأولى، دار المعرفة بيروت ،1402-1982.
[6] - الموافقات، المرجع السابق ج .2، ص : 25.
[7] -الموافقات، ج 2، ص : 8.
[8] -الموافقات، ج 4، ص : 28.
[9] محمد الطاهر بن عاشور : "مقاصد الشريعة الإسلامية"، ص : 83. الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1978.
[10] - سورة "المنافقون" آية 8.


إرسال تعليق

0 تعليقات