كرة القدم الصنم المعبود



 

 

إذا كان العرب في الجاهلية قد عبدوا الأصنام وعلى رأسها صنم هبل، فإن الكثير من عرب اليوم يعبدون هبلا جديدا؛ إنه كرة القدم.

جلد مكور مملوء هواء، سبى العقول وترك الأفئدة هواء. ملايين القلوب عاكفة على هذا المعبود. أموال تنفق قرابين، وأوقات تضيع عبثا وسدى، وأعصاب تحترق وتمزق في سبيل جلد مكور يقفز يمنة ويسرة، والعيون جاحظة ناظرة بإعجاب، والقلوب تكاد تندفع من القفص الصدري؛ فرحا أو حزنا .

إن أرصفة الشوارع الآن شبه خالية من الناس، ضجيج السيارات لا يسمع إلا قليلا. مشهد رهيب؛ إنها ساعة العبادة الحديثة؛ العبادة الشيطانية. إنها ساعة العكوف على هبل والمثول بين يديه، وتقريب القرابين؛ بيع النفوس أو ذبحها وتقريبها بكل سخاء وتفاني للصنم الجلدي الهوائي المكور.

المقاهي، معابد هبل الجديد،  مليئة ومكتظة وقت “العبادة الجديدة”. المساجد، بيوت الله، تكاد تهجر أثناء تقريب القرابين لهبل. وكم من مسلم ترك صلاته إذا حضر هبل، فيعرض عن خالقه ليلبي نداء هبل؛ “أفرأيت من اتخذ الهه هواه”.

هواه هبل، هواه هواء في جلد مكور يقفز يمنة ويسرة؛ “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين” (التين؛ 4-5). فهل هناك منزلة أسفل وأضل من منزلة عبادة الهوى ؟؟ سواء أكان هواء مكورا يقفز وينط، أم شهوة عمياء، أم ظلما وكبرا، أم شركا وطغيانا.

أخي المسلم الذي يبيع نفسه لهبل الجديد ويعرض عن الصلاة لأنه في “صلاة” أخرى، أو يكثر ذكر هبل وتعظيمه في نفسه أومع زملائه الهبليين؛ أما تدري أن الله خلقك لعبادته لا لعبادة هواك؛ “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.” (الذاريات 56) ؟ أما تدري أن الله يقول؛ “وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين” (الدخان 38)؟ فكيف تلعب وأنت تعلم أن ربك لا يلعب؟ كيف تتجرأ لتلعب بدينك، وتستجيب لنداء هبل الكرة بكل حرارة ولهفة، وتعرض عن نداء ربك، أو تقبل عليه بقلب ساه لاه غافل، لأن هبلك ملك عليك فؤادك، وتربع على عرش قلبك ؟؟ حذار ثم حذار.

وأعرف أحد الأصدقاء الذين ينتصرون لفرقة مدريد الإسبانية، يحزن كثيرا عندما تخسر في لعبها؛ بحيث لايطيب له طعام ولا شراب ولا حديث، بعد مشاهدة مباراة فريقه الخاسر. وقد يظل أياما مهموما منكسر القلب. لقد أصيب فريقه المحبوب، فهو لذلك يعاني من الآلام النفسية أكثر مما يعانيه أعضاء الفريق أنفسهم. وكثيرا ما يكون لوضعه النفسي هذا أثر سلبي في سلوكه العملي، أو في علاقاته بمحيطه الاجتماعي. وذات يوم أخبرني أنه سيقوم بأداء العمرة، فبادرته قائلا؛ “ادع ربك في المسجد الحرام أن يخلصك من هذا الهم، ويخرج من قلبك حب الكرة وفريق مدريد”. فأجابني؛ ” أعوذ بالله، لن أفعل هذا، ولا أستطيعه، بل أخشى حدوثه؟؟” . فهمست إلى نفسي؛ “لماذا سيعتمر هذا المسكين الولهان؟ وهل سيطوف بالكعبة حقا، وكعبة هبله في قلبه؟” ، إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أسرع الشرك والبدع والانحراف إلى القلوب.

وبهذه المناسبة، أزف إلى القارئ الكريم باقة من الخواطر والرقائق الإيمانية التي دونتها قبل سنوات، لعلها تتناغم مع الموضوع؛

 فر إلى الله


لا تألف غيره لأنك مفارقه، ولا تتعلق بسواه لأنه فان. وروحك خالدة. واعلم أنك في سفر منه إليه، وقد أودعك الأمانة فضيعتها في الطريق لتزودك زاد المقيم، ونسيت أنك على سفر، فأمنت سقر، فلفحك لهيبها. فر إليه وتذكر ألفتك الأصلية، واسأل الله أن يردها إليك، وفي الحديث ( اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري…وتلهمني بها رشدي وترد بها ألفتي ). 

لا عذر لك


لا قلب لك، لا سمع لك، لابصر لك فأنى لك بالخشوع، وأنى لك بالإنابة. بل كيف يتجافى جنبك عن مضجعك. هيهات هيهات؛ أتروم الظفر بحلاوة الإيمان ولما تنفطم نفسك عن شهواتك. كيف بك وقد كشف عنك غطاؤك وأنت على هذه الحال. لا عذر لك يا ابن آدم، فيداك أوكتا وفوك نفخ.

 كسر أصنامك


كسر أصنامك تبد لك أسرارك، ولذ بالرحمان تفز بالإحسان. أبناء جلدتك عكفوا على الأصنام وزينوها ووضعوا لها الأرقام، وحلت عندهم محل خالق الأنام، ومنها المحسوس والمخيل، والثاني أظلم لتعلقه بالوهم، وكلاهما سراب لأن ما خلا الله باطل، “ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور”. لا تلتفت إلى الأصنام فتصيبك السهام، وتبرأ منها وممن يطوف حولها، واحتم بصاحب الحول سبحانه ما أعظمه.

   يالهول المطلع


أزفت الآزفة، وصخت الصاخة، وأدبرت الدنيا وأقبلت الآخرة، وأنت في شأن آخر كأنك غير مطلوب ولا مخاطب؛ “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون”. كلا لتقفن بين يدي العزيز ويا لهول المطلع، ولتفترسنك الندامة ويا لسوء المصرع، ليت أمي لم تلدني أين المفزع ؟

أفق من غفلتك


لا خبر عندهم فيما هم إليه سائرون، ولا عقل لديهم يعقل ما هم به مخاطبون. كأنما وجدوا من غير سبب، ونشروا على الأرض لغير طلب. هيهات هيهات؛ أتظن الأمر لهوا والحياة لغوا ؟ كلا، إذ كل ما يحيط بك، لو أبصرت، له خاضع، وإليه راجع. فاخلع نعليك إنك قاب قوسين أو أدنى من الحرم الآمن، وإلا فار التنور وقيل بعدا للقوم الظالمين.

—-
د. أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف،كلية أصول الدين جامعة القرويين/ تطوان المغرب. محرم 1435/نوفمبر2013


إرسال تعليق

5 تعليقات

  1. أقل مايجب قوله عقب قراءة أي من هذه المواضيع الشيقة, كلمة شكر ودعاء بالثواب ولأجر لهذا الأستاد المثابر. وأقول لك أستادي أن سنوات التصوف السبع لم تذهب سدى... فلقد علمتك المتابرة والصبر و... جزاك الله خيرا.

    ردحذف
  2. عبد الحميد كرامون23 أبريل 2017 في 6:49 ص

    مشكور أستاذي على هذا المنشور الجميل الذي يحرك ما بداخل الإنسان

    ردحذف
  3. السلام عليكم ورحمة اللع وبركاته:
    إنها كلمات نابعة من قلب غيور على أبناء جلدته، يريد لهم الخير والنفع والنجاة،فما أعظمها من عبارات ﻷنها توقظ النائم في السبات الكروي العميق،وتنبه الغافل الشارد في اﻷرقام واﻷلقاب.
    ولكن ألا ترى أستاذي بأنها معبود من قدمها على العبادات،ورياضة لمن جعلها مجرد حركات يتقوى بها على طاعة ربه كباقي الرياضات المشروعة

    ردحذف
  4. الدكتور عبد الله الشارف15 أغسطس 2018 في 5:33 ص

    كلامك صحيح إذا اعتبرها مجرد رياضة بدنية، ولعل هذا هو أهم مقصد شرعي فيما يتعلق بكل أنواع الرياضات البدنية.

    ردحذف
  5. اسلوبك شيق وجميل احبه كثيرا يجعل القاريء يتشوق لقراءة المزيد.انا فتاة كنت امارس كرة القدم والان عفا الله عما سلف..احبها ولكن عندما قرأت مقالك زعزع مشاعري وقلبي وارشدني إلى منهج اخر كنت أنا على خطأ..كنا ننتظر الساعة بفارغ الصبر ونحجز المقاعد أملا في انتظار اللحظة كانها لحظة العبادة..وحتى الصلاة لا ننتظرها كما ننتظر ساعة حضور كما قلت يا استاذي انتظار ساعة الحضور امام الصنم الهوائي الكروي "هبل"يتزحزح في كل الاتجاهات.. لك ذاكرة خيالية واسعة مخيلة ذكية .. فانت تعطينا أفكارا عميقة بلغة جميلة تحرك القلوب.

    ردحذف