واحة الذكر



 

إن الذكر بمفهومه اللساني والقلبي، وكذا من حيث أنه تأمل وتفكر وتدبر وطاعة وامتثال لأوامر الله، هذا الذكر له تأثير في تقوية الإرادة المثالية الهادفة واستثارة طاقاتها.
ولما كانت النفس ميالة بطبعها إلى الملذات والشهوات، واتباع سبل الغواية، كانت بذلك السبب المباشر في إضعاف الإرادة الإنسانية، والحيلولة بينها وبين القيام بالوظائف السامية، ولا سيما وظيفة الاستخلاف في الأرض. وهنا تبرز أهمية الذكر بمفهومه الشامل، باعتباره أعظم وسيلة لتهذيب نوازع النفس وميولاتها والأخذ بيدها إلى ساحل السعادة والطمأنينة، كما تبرز أهميته أيضا في إعادة الحياة إلى الإرادة الحقيقية الهادفة، خاصة وأن عنصر الإرادة هو أحد العناصر الجوهرية المكونة لحقيقة الإنسان، إذ لولاها لما كان مكلفا، ولما تحمل الأمانة.
ولما كان الإنسان في أغلب أحواله إذا مسه الخير منوعا وإذا مسه الشر جزوعا، وكانت نفسه دائمة الشعور بالفاقة والحاجة، متحملة للمشاق في سبيل الحصول على رغباتها المتجددة والتي لا تنقضي، أنعم الله عليه بالإسلام والقرآن وعلمه على لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه، كيف يمكن أن يعيش في هذه الدنيا عيشة راضية. ومن هنا كان ذكر الله أفضل طريق موصلة على الحقيقة إلى الاطمئنان، والاقتناع بأنه لا فاقة يمكن الشعور بوطأتها مع وجود الذكر الصادق، وممارسته بمفهومه الشامل والعميق.
ولعل أحسن من عبر عن هذا المعنى؛ العلامة محمد ابن قيم الجوزية رحمه الله إذ يقول: "في القلب خلة وفاقة لايسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب، بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة ويفني الفاقة، فيكون صاحبه غنيا بلا مال، عزيزا بلا عشيرة، مهيبا بلا سلطان، فإذا كان غافلا عن ذكر الله عز وجل، فهو بضد ذلك فقير مع كثرة جدته، ذليل على سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته"
وأسمى أنواع الذكر أن تستحضر الله في قلبك حتى تغدو كأنك تسمع الذكر بلسان الكائن الروحي المتعلق بذلك العضو الذي بين جناحيك، أو تشعر بعد التحقق بالخشية والحياء، بأن نظر الله المصوب إليك قد ملك عليك كيانك، فأنت مستغرق في الذكر وإن لم يتحرك به لسانك، أو مستغرق فيه وأنت تمارس وظيفة الاستخلاف، أو تتفكر في مخلوقات الله، أو تنعم بما أحل الله لك من النعم.
وإذا غدا الاستغراق في الذكر لسان حالك، غمرتك حلاوة لم تعهدها من قبل، إنها حلاوة الذكر الناتجة عن الأنس بالله والقرب منه، وكلاهما ثمرة الطاعة والمحبة. فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش، ومن أنست نفسه بالله لم يجد لذة في الأنس بغيره، ومن أشرق قلبه بالنور لم يعد فيه متسع للظلام.

د. أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف/ ربيع الأول 1433- فبراير 2012/ تطوان المغرب

إرسال تعليق

0 تعليقات